بدل رفو
القسم الأول
الساعة الثالثة صباحا، ورنين المنبه يملأ حجرتي العبقة بذكريات الماضي والبلاد والجزر، إنه لحن "مونامور = يا حبيبي" للفنان الفرنسي الأرميني الأصل"شارل أزنا فور".. ذكرياتي مع هذه القطعة الموسيقية ترجع إلى منتصف الثمانينيات في دور الموصل القديمة وأيام الشباب.
المنبه يرن كي أحمل حقيبتي الظهرية المهترئة من السفر والترحال وهذه المرة صوب جزيرة لها ثقلها الكبير ومكانتها في التاريخ الإسلامي والإنساني ،إنها جزيرة صقلية في أقصى جنوب ايطاليا .بعد إفطار من قهوة نمساوية من فيننا وتين من كوردستان وكذلك كليجة كوردية كان السفر والرحيل من مدينة غراتس النمساوية والتي مضى لي فيها اكثر من عقدين وغربة غدت لي وطناً صوب عاصمة النمسا فيننا ولياليها.
هذه المرة في فجر ربيعي والمسافة استغرقت ساعتين بالسيارة وبرفقة قرص أغان كوردية من كوردستان تركيا أهداني إياه في رحلتي الماضية الفنان عصام حجي طاهر مشكوراً.
وقد عدت منها قبل أسبوعين برفقة ذكريات حلوة لمدينة تسمى بعشيقة وأمسية شعرية بين ناسها الطيبين الذين اغمروني بحبهم. وبعد العودة إلى دهوك إذا بأضواء مدينتي الموصل تشع من بعيد وألهبت في روحي الشوق لهذه المدينة التي قضيت فيها طفولتي المؤلمة وشبابي.
تبعد الموصل عن بعشيقة 17 كيلومتراً .. هذه الذكريات غزتني وأنا أتوجه إلى مطار فيننا كي أحلق صوب جزيرة صقلية.. ذكريات قرية الشيخ حسن وصوامعها والوطن الابيض ووالدتي وصلواتها التي ترحل معي أينما اتجهت في رحلاتي.
أقلعت بنا الطائرة الساعة السابعة والنصف من نهار ربيعي مشمس لتحط بعد ساعتين في مطار كاتانيا في جزيرة صقلية.
جزيرة صقلية وما يكمن بين ثناياها من حكايات وتاريخ قديم في سجل الإنسانية.. وكذلك حاضر ثري بالفن والرومانسية الصقلية.
وكانت لكل الغزوات في التاريخ القديم والحضارات التي تعاقبت عليها على مدى 2500 عاما بصمات كبيرة وواضحة في تاريخها العريق وحضارتها الأصيلة.. فاليونان مثلاً اخذوا منها ومنحوها فن العمارة اليوناني.
وكذلك نلاحظ تأثير الفن البيزنطي على ثقافتهم.. تعد البيوت الصقلية من أجمل البيوت في أوربا.. كذلك كانت صقلية المركز الرئيسي لعصابات المافيا فرأيت صورا لرئيس المافيا على فانيلات تباع للسياح.
مساحة صقلية24807 كليومترا مربع وتشتهر ببركان جبل"إتنا"، أكبر بركان حيوي ونشط في أوربا يبلغ ارتفاعه 3323 مترا.
تعد جزيرة صقلية أكبر جزيرة متوسطية.. وترجع شهرتها لأسباب كثيرة منها آثار الحضارات المتعاقبة عليها.. وكذلك غابات البلوط وأشجار اللوز وجبال العنب وكذلك أشجار الحامض والبرتقال والزيتون والنخيل.
ومابين أكواخ الجبال تنتشر الكروم والحدائق الجميلة والرومانسية والطبيعة الخلابة والشلالات والجبال الشاهقة والشواطئ الرملية. تترك صقلية لدى الزائر انطباعات رائعة وصورة من الصعب نسيانها وتأثير شعبها اللطيف المرح والمحب للنكتة.. بوسع الفنانين وعشاق الفن والباحثين عن الآثار الفنية والكنوز والتحف من زمن الباروك العثور عليها.
بالرغم من أن نشأة الباروك كانت في القرن السادس عشر في روما وبعدها ب 50 عاما جاءت الى صقلية، لكن الفنانين الصقليين تمكنوا أن يجدوا للفن الصقلي في زمن الباروك أسلوبا جديدا.. لهذا يعتقد البعض بأن مركز الباروك كان في صقلية.
في مطار كاتانيا حيث حطت بنا الطائرة كان في انتظار مجموعتنا باص لينقلنا إلى فندق على قمة جبل في مدينة تاورمينا.. استغرقت المسافة أكثر من ساعة، لكن الطريق كان حلم صباح ربيعي حيث الطبيعة القاهرة والأنفاق الجبلية الرائعة وشواطئ البحر الثائر وأمواجه العاتية.. من الشارع الرئيسي استقلينا التلفريك الكهربائي ليحلق بنا الى الفندق على قمة الجبل.
وأنا أحلق عاليا عاليا فوق طبيعة صقلية وشوارعها وجسورها المعلقة بأهداب السماء، غزتني مسحة حزن وتذكرت شارع"دهوك ـ باعذرة" وقد مضى عليه 19 عاما ولم يكتمل بالرغم من أنه طريق يؤدي الى العاصمة اربيل.. وحلمنا أن ينتهي الشارع وليس بناء جسور معلقة.. و بالرغم من كل شئ إنه الوطن وسيظل حبيبنا وفي القلب ابداً.
وصقلية تغزو قلوب الغرباء قبل السكان بجمالها وطبيعتها وتستمر الرحلة....
القسم الثاني
"جارديني ناكسوس" كانت مستعمرة اليونانية في قرون قبل الميلاد ومن هذه المستعمرة قدم اليونانيون الى مدينة "تاورمينا" وشيدوا المدينة وتركوا آثارا خالدة منها المسرح اليوناني. وبعدهم جاء الرومان بقيادة القيصر"اوكتافيان" عام 36 ق.م ولغاية 300 م الذي زرت قصره في مدينة"سبليت"الكرواتية الصيف المنصرم.
كذلك ترك الرومان آثارهم في تاورمينا ومنها المسرح الروماني وفن العمارة والموزاييك المنتشر في المدينة ومدينة الرياضة والهياكل والقبور.
أما حكاية هذه المدينة مع العرب فقد غزاها العرب مرتين في القرن العاشر وفي عام 1870 تم غزوها من قبل الجرمانيين. كانت جزيرة صقلية نقطة التقاء لكل نبلاء أوربا.
وكان للشاعر الكبير "غوته"التأثير الواسع على ثقافة وحضارة صقلية وكذلك انعكاس جماليتها على أعماله لأن الكثير منها كتبه في هذه الجزيرة.. كذلك يقام حاليا في هذه الجزيرة مهرجان سينمائي عالمي.
مدينة ناكسوس إرث الإنسانية والتاريخ
قدم اليونانيون إلى مدينة ناكسوس عام 755 ق.م واستوطنوا فيها.. هذا ما وجدته على تمثال معاصر على شواطئ البحر لفنان وتذكاراً لاولمبياد .1960 وكان قدح النار الاولمبية الذي أوقد في روما جلب إلى صقلية وشيد هيكل جميل من أعمدة يونانية كربط بين اليونان وحضارتها والرياضة التي تجمع الشعوب والأوطان.. صقلية هي مركز المافيا والمافيا بالايطالية "كوسا نوسترا"أي" شأننا".
وقد مثلت أفلاما ومسلسلات حول عصابات المافيا أشهرها "العراب ".. وحين حاولت الحديث مع الصقليين حول المافيا كانوا يمتنعون عن الحديث.
متحف الآثار في ناكسوس تاريخ من حضارة إنسانية
زيارة إلى متحف الآثار في مدينة ناكسوس زيارة إلى عمق التاريخ الإنساني الخالد وحفريات مستمرة في سبيل البحث عن التاريخ وما تخبئه الأرض،ناكسوس معقل اليونانيين والآثار الموجودة في المتحف موزعة على أربع مراحل:مرحلة 800 عام ق.م، مرحلة 500 عام ق.م،مرحلة الآثار اليونانية،مرحلة الآثار الرومانية والبيزنطية.
توزعت الآثار والتحف الثمينة في مبان ومعارض وصالات ومنها الأواني الفخارية والمعدنية وجرار الماء والمحاريث وعملات نقدية وأباريق وتماثيل لشخصيات تاريخية وأجزاء وقطع كثيرة من فن الخزف.
وقد جلب اليونان التحف من بلادهم إلى هذه المدينة .وتلك التحف تبرز جمالية الفن والرسم وكذلك النقش ومدى التقنية العالية.
تنوعت الأعمال في هذا المتحف النادر الرائع وكذلك بينت العملات النقدية المعدنية بأنها ترجع إلى 400 عام ق.م وهناك قسم آخر للنقش والنحت على الدور والحجر في جزيرة صقلية لمئات الأعوام ق.م.
وفي صالة المتحف شاشة كبيرة لعرض بعض الأعمال التي يقتنيها المتحف وشريط حول اكتشاف الآثار في عمق البحر وجلبها بطرق يمكن الاحتفاظ بها وتقيها من الكسر.
أما في الحديقة الكبيرة فهناك أقسام للحفريات حول الآثار القديمة لأربع مراحل من تاريخ المستعمرة اليونانية ناكسوس. وكذلك تنتشر أشجار الحامض والبرتقال والتوت. ويمتد تحت ظل سور المتحف الكبير الطويل الميناء الذي كان في زمن اليونانيين.
وتحت ظل شجرة الزيتون وبجنب البرتقال وحضارة اليونان ميلاد قصيدة كوردية "مابين الطلقة والنار كنت أنت،ومابين البياض والبحر وجع زمانك،وما بينك وبيني كان الوطن".
للجزر التأثير الواضح على حياة الإنسان فمؤلف الرواية اليونانية"معلمة المدرسة ذات العيون الذهبية"جاء من المدينة وهو لا يحمل شهادة دراسية ولكن سحر جزيرة"ليسبوس" اليونانية جعله روائيا رائعا.
للبحر وصراخه وهديره ووجعه الوقع الكبير على روح ومشاعر الإنسان وبالأخص الأدباء والفنانين. فالروائي العالمي "ارنست همنغواي"كان له في كل جزيرة ومدينة شاطئية ركن و مقهى باسمه.. ناكسوس مدينة على البحر وتكثر فيها الآثار وعدد سكانها لا يتجاوز 10آلاف نسمة. ولكن السياح أكثر من أهل المدينة.
تكثر فيها المطاعم الصقلية وأنواع الأسماك وكذلك الأكلات العربية ومحال لبيع الأشياء التذكارية للسياح .التنزه على شواطئ ناكسوس رحلة إلى عالم رومانسي وتستمر في صقلية الرحلة.
القسم الثالث
حرر البطل غاريبالدي جنوب ايطاليا من المستعمرين عام 1860م وانطلقت قواته المؤلفة من كتيبتين من مدينة ناكسوس ومن شواطئها الكبيرة لتحرير ايطاليا وتكريماً لهذا البطل الأسطورة شيدت المدينة تمثالا رائعا له في مركز المدينة بالقرب من شاطئ البحر.
ومدينة ناكسوس تبعد خمس كيلومترات عن مدينة تاورمينا ولها ساحل رملي جميل للتنزه عليه وللسباحة تشرف عليه الفنادق الصقلية والمقاهي. هذه المستعمرة اليونانية التي شيدها اليونانيون عام 735 ق.م والقادمين من جزيرة "ناكسوس" اليونانية،مدينة ناكسوس من المدن الرومانسية.
وهي ذات طابع متميز في فن العمارة والتي طغت عليها بصمات اليونان والرومان والبيزنطيين.
واليوم يعيش على ارض صقلية 5 ملايين صقلي و 5 ملايين يعيشون في الأراضي الايطالية و18مليون صقلي يعيشون في الولايات المتحدة.وهذه الأسباب والهجرة الكبيرة منها يرجعها البعض إلى قوة المافيا والتي تعد صقلية مركزها الرئيسي والعاصمة باليرمو دائرة النفوذ لهم.
جزيرة صقلية لها شهرة كبيرة في مجال التصميم والفنون والتحف الأثرية. قبل 10 آلاف عام سلكت جزيرة صقلية الطريق صوب إمبراطورية التصميم والفن واشترت الكنوز الفنية وسلكت الأساليب المتنوعة والتقنية العالية.
فمثلا شيد اليونانيون الأعمدة والهياكل المقدسة الفنية .أما البيزنطيون فقد جلبوا الحب على شكل نماذج وبألوان زاهية على أوراق ذهبية موزائيكية.
وهذا ما وجدت الموزائيك بصورة مكثفة في محلاتهم ومتاحفهم. وكذلك العرب جلبوا لها نماذج من الزخارف والفنون من الشرق.
أما الفن الباروكي الاسباني فقد غزا الجزيرة في القرون 17 و 18.
ليالي الأنس والرومانسية في مدينة تاورمينا
أيام وليال عشتها في مدينة كأنها نسجت بخيوط الرومانسية والجمال. وليس بوسع العين والشعر والأدب وصف هذه المدينة في جزيرة صقلية وتعد من أجمل المدن التي زرتها على الإطلاق. وتترك لدى الزوار انطباعا رائعا ومذهلا .
مدينة تحتفي بالفن في كل ركن وزقاق وشارع. بالرغم من أن كل مدن وقرى جزيرة صقلية تجثم على قمم جبال شاهقة وكأنها نجوم معلقة بأهداب السماء.
مدينة تاورمينا، بالرغم من أن عدد سكانها لا يتجاوز 11 ألف نسمة، إلا أن مركزها وأزقتها مليئة تغص بالسياح على طول أيام السنة وأزقتها ضيقة للغاية ومركزها رومانسي وجذاب وبيوتها تتدلى منها النباتات والمتسلقات وقد طرزت بفنون الإنسانية.
الحضارات التي قطنت فيها وكأنها أشبه بلوحة تشكيلية وهذه المدينة هادئة للغاية للباحثين عن الهدوء وبعيدا عن ضوضاء المدينة والعولمة وفي إحدى مقاهيها والتي تقابل الجبل البركاني الثائر"إتنا"ومقهى راق للغاية.
كلفني إبريق شاي لمجرد أني أحببت أن استمتع به أمام جبل البركان 17 يورو. والشاي كان في إبريق فضي "عش رجبا ترى عجبا".
أجمل الكنائس القديمة ومطرزة من الداخل بفنون راقية وزخارف وموزائيك قديم وأعمدة مرمرية حافظت على قوة الفن والبقاء لهذه الكنائس. التصميم في هذه المدينة سواء في الغاليريات أو المتاحف أو محلات خاصة أو بيوت العامة أو الأبنية الحكومية القديمة يترك عند الزائر انطباعا باهرا.
ولقد عاش في هذه المدينة أدباء وفنانون وملوك تغنوا بها وانبهروا بجمالها وموقعها .فالورود لا تفارق هذه المدينة سواء في حدائقهم أو شرفاتهم أو مقاهيهم على المناضد. ولقد كانت تاورمينا في القرن 9 عاصمة التجارة للبيزنطيين.
في الصيف من المستحيل العثور على فندق أو حجرة للسكن.. فهي تكون قبلة الزوار من كل أنحاء العالم وبالأخص النمساويين يمكثون فيها طويلا. ولقد خلف اليونان وراءهم في هذه المدينة المسرح اليوناني الكبير الذي يطل على البحر في منظر جميل.
وقد حافظ على مدرجاته عكس المسرح الروماني الذي يقع في مركز المدينة ووسط البيوت .وفي مركز المدينة حيث الكاتدرائية ومتحف التراث الشعبي والذي يبين قوة لعبة الدمى والاشخاص التي تفنن بها أهل هذه المدينة على طول التاريخ القديم والحديث أيضا.. ويقع المتحف في بناية قديمة.
في مركز المدينة حيث تنتشر المحال والهدايا التذكارية ومنتجات صقلية مثل العسل والشراب الايطالي والايس كريم المشهور عالمياً ومحال تجارية لبيع اللوحات والخزف.
وأنا أهيئ نفسي لأتسلق جبل البركان في اليوم القادم وتسير الرومانسية الصقلية ومعها تستمر الرحلة.
القسم الرابع
بركان اتنا.. أكبر بركان حيوي في اوربا
يحبذ العالم الغربي دائما ان يؤرشف اللحظات الحلوة بالصور واللوحات والأحلام كي يتذكروها في المستقبل.
أما فلاسفة الشرق وكذلك حكماء الشاوولين يقولون أن علينا الاستمتاع بحياتنا الحاضرة ونقتنص اللحظات الحلوة دون العودة إلى الماضي والذكريات.
وانا بدوري اتفق مع الكلام بالرغم من اني التقط اللقطة والصور لغيري كي يتمتع بها من لم يعش اللحظة.
انه صباح ربيعي حيث الشمس ترسل اشعتها الذهبية وتطرز جبال صقلية الشاهقة. وموعدنا المجموعة القادمة من النمسا بالتوجه صوب الجبل البركاني"اتنا".
انطلق بنا الباص السياحي عبر القرى المعلقة بسفوح الجبال وانفاق تحت الارض وجسور معلقة في الهواء.
استغرقت المسافة من مكان اقامتنا لغاية الجبل ساعة كاملة. واثناء عبورنا القرى لاحظنا آثار الهزات الارضية على بعض القرى ومنها حيث تمت وقاية احدى الكاتدرائيات الكبيرة باعمدة ضخمة من اجل ان تصمد في وجه البركان.
على سفوح الجبل البركاني ولغاية وصولنا الى منطقة التلفريك كانت سفوح الجبل سوداء بالحجارة البركانية "الحمم".
انه بركان "اتنا "والذي يبلغ ارتفاعه 3323 مترا ويعد هذا البركان المغناطيس الكبير لجذب السياح الى هذه الجزيرة وهو انشط بركان في أوربا حاليا.
وبوسع المشاهد ان يرى قمة جبله الدخاني وكما يسمى بالبركان المدخن، لأنه يرسل الدخان طول الوقت من فوهته.
ومنذ عام 1987 يعد هذا البركان وما حوله ب قسم المنتزه الوطني"منتزه اتنا الوطني".
وفي قمة الجبل يمكن مشاهدة حفر بركانية لبراكين صغيرة وحمم بركانية وكأنه بانوراما الجمال.
والحجارة السوداء الصغيرة والناجمة من الانهيارات كأنها صحراء سوداء. ومنظر الحجارة السوداء يسافر بنظرك لغاية الغابات المنتشرة بكثافة في جزيرة صقلية .. ويعد اتنا اشهر بركان ذي إشعاعات وحيوية.
ويبين التاريخ بأن البركان قد تعرض لانفجارات وفوران في عام 475 ق.م 1169 م، 1339 م،1381م.. والدلائل حول هذه التواريخ كثرة الحمم البركانية والاحجار الضخمة في الجزيرة وعلى شواطئ البحر.
ولكن أكثر انفجار عنفا كان عام 1669م واستغرق 22 يوما ودمر 16 مدينة في منطقة كاتانيا.
اول السياح الرسميين وصل "اتنا" كان في عام 1493.. وللصعود على جبل اتنا في الصيف الساخن يتوجب على المتسلق ان يرتدي ملابس شتوية بالإضافة إلى قبعة راس وقفازات. كذلك لمن يرغب بالبقاء على قمة الجبل بخيمته عليه أن يحصل على إذن رسمي من السلطات. وكذلك ضروري ان يحمل المتسلق تلفونه الخلوي معه بالرغم عدم وجود الشبكة في كل مكان من الجبل.
في الساحة الرئيسية وعلى ارتفاع 2000 م فوق الجبل تنتشر المحال والمقاهي وكذلك محال لبيع كل اصناف العسل الحقيقي التي تشتهر المنطقة بها وباسعار معقولة وكذلك اكشاك لبيع الهدايا التذكارية وكذلك اماكن لمن لا يرغب بالسفر بالتلفريك لأنه يكلف مبلغا كبيرا.
ويعد هذا المكان هوية جزيرة صقلية الحقيقية. فكل من دب على ارض الجزيرة له حكاية وذكريات حول الجبل وكذلك يوجد تلفريك شتوي آخر ومنطقة مخصصة للتزحلق على الجليد.
التقيت رجلا طاعنا في السن ينحت من الحجارة البركانية تماثيل وألعابا ويبيعها للسياح. واثناء حديثي معه قال بانه امضى عمره مع هذا الجبل.
وصدفة التقيت على قمة جبل مجموعة نمساوية اخرى وعلى قمة الجبل دار حديث بيننا حول البركان وبعدها تحول الحديث الى الكورد وجبالها وكوردستان مستقلة. ساعات طويلة ونهار ربيعي كامل للتنزه على الجبل في جزيرة لها مكانتها الكبيرة في التاريخ.. والزوار من جنسيات مختلفة وأعمار مختلفة.
وبعد هذا النهار التاريخي ،كانت العودة للفندق ومن طريق اخر كي نمتع النظر بطبيعة جميلة.
وحين وصلت الفندق الجبلي والفكر مشغول بالجبل والبركان وانا اتفرج على جدران الفندق إذا بلوحات ايطالية تزينها، وقتها تذكرت الرسام المبدع سردار كيسته ى حين زرته في غاليري دهوك قبل عودتي من كوردستان.
وقلت لنفسي أليس من الجميل والمفروض ان تزين فنادق كوردستان بلوحات وروائع فنانينا الكورد"واحسرتاه"واقتراح الى وزارة السياحة في اقليم كوردستان وليس بحاجة لجواب!!! نهار جميل مع بركان ثائر يظل في مخيلة من شاهد جبله السامق وتستمر الرحلة.
القسم الخامس والأخير
ماذا تفعل الأعمدة والهياكل اليونانية في صقلية؟ وماذا يفعل الموزائيك البيزنطي؟والكاتدرائيات من شمال فرنسا؟ ولم غرس الصقليون أشجار النخيل والقطن؟ ولمُّ هم عشاق وتواقون للشوكولا والحلويات؟ ولمُّ يملكون عيونا زرقاء بلون البحر والسماء؟كل هذه الأسئلة وأجوبتها يراها الصقليون في ماضيهم وآثار آلاف الأعوام ويقولون بان التاريخ يعيد نفسه لكن بصورة معقدة.
حكاية العرب مع صقلية بدأت من عام 965 واستمرت 200 عاما.. وكانت عاصمة صقلية باليرمو ملهمة العرب ومركز الإشعاع عليهم .ولذلك جلب العرب إليها نظاما جديدا وأشجار النخيل والبرتقال والقطن. تتسامق أشجار النخيل على جوانب الشوارع.
وكذلك قدم إلى صقلية الكثيرون من الفلاسفة والعلماء وكانوا في التقاء مع الحضارة الصقلية ووجود الأسماء العربية لغاية اليوم، مثلا هناك نهر كبير في جبل اتنا واسمه "القنطرة" وحتى جبل اتنا اسمه بالايطالية"مونت جبلوا" اي الجبل.
في اليوم الأخير من رحلتنا إلى صقلية كانت الزيارة لمدينة كاتانيا التي تعد ثاني أكبر مدينة حيوية بعد باليرمو العاصمة.. في الأعوام الخمسة الأخيرة جددت مدينة كاتانيا وأبنيتها من الحجارة البركانية الضخمة السوداء وبواجهة زرقة السماء والنوادي الليلية والمطاعم والمقاهي التي تظل مشرعة الأبواب لغاية الصباح.
أما سوق السمك والفلاحين فيعد من الأسواق التي تترك في النفس انطباعا جميلا.
وفي مدينة كاتانيا تنتشر الأكلات والوجبات الصقلية المشهورة برفقة الموسيقى وكذلك الأكلات العربية ومنها البرغل.
وفي شوارع كاتانيا يمكن مشاهدة أبنيتها وفنون العمارة تبين مدى دقة التصميم..
وحين يجري الحديث عن التصميم في صقلية فمدينة كاتانيا تأتي في المقدمة من حيث القدم والآثار والمعاصرة أيضا وجمالية المدينة ورومانسيتها.
يبلغ عدد سكان كاتانيا 300 ألف نسمة وقد شيدت هذه المدينة عام 729 ق.م وقد غزيت المدينة من قبل الرومانيين والبيزنطيين والنورمانديين.
وفي عام 1669 حين انهار الجبل البركاني "اتنا" تم غمر الجزء الأكبر من المدينة تحت الحمم والحجارة البركانية.
وتوجد في المدينة محطة قطارات وقصور تاريخية مشهورة ومنها قصر جيوفاني وقصر دوتومو الذي يعد إحدى تحف الإنسانية وحضارة العالم.
وكذلك وجود مسرح ماسيمو باليني وكما يدعون بأنه اكبر مسرح في أوربا.. ويمتاز مركز المدينة الحضاري الثقافي بعرضه مجموعات من الفن الحديث في معرض دائم وكذلك الفن والتصوير في فترة الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه المدينة كل وسائل الراحة للزوار والقادمين إليها من حيث وسائل الانترنت والبريد ومكاتب السياحة.
ففي كاتانيا وتاورمينا وناكسوس وكل المدن الصقلية الفن والجمال والرومانسية لا تتجزأ من جسد هذه الجزيرة.
فاللوحات التشكيلية ومحال الخزف والحفر على الخشب والنحت وزخرفة الأبنية الفائقة الجمال، وكذلك الحداثة التي تعيشها الجزيرة إضافة إلى تاريخها عبر حضارات متعاقبة عليها وجبالها الشاهقة التي تناطح السماء وقراها التي تغفو على قمم الجبال جعلت من الجزيرة شعاع العين وعشق القلب وبصمة مضيئة في ذاكرة الإنسان في توقه إلى الجمال والرومانسية.
قبل عودتي وفي زيارة الوداع زرت مقبرة الحيوانات لأرى أين تدفن الكلاب والقطط الصقلية فوجدتها مقبرة جميلة والاهتمام بها لا يوصف وشاخصات القبور مرسومة عليها صور الكلاب والقطط وتاريخ الولادة والوفاة وتوقد عندها الشموع تذكارا وتجلب الورود لهم في المناسبات.
وتذكرت الحكمة الفرنسية حين زرت باريس "من يمت في باريس قد عاش حياة" وأما أنا أقول: كل كلب مات في صقلية قد عاش حياة.
وبعد خروجي من المقبرة كنت اردد مع نفسي"مرينا بيكم حمد وإحنا بقطار الليل" .ودعتنا صقلية بأمطار شديدة في اللحظات التي وصلنا المطار بعد أيام في جزيرة يعجز الوصف عنها.. فهي جزيرة الشعر والتاريخ والأدب والرومانسية والجبال وبلاد البرتقال والبراكين والحسناوات ولكن!!! انتهت الرحلة.
القسم الأول
الساعة الثالثة صباحا، ورنين المنبه يملأ حجرتي العبقة بذكريات الماضي والبلاد والجزر، إنه لحن "مونامور = يا حبيبي" للفنان الفرنسي الأرميني الأصل"شارل أزنا فور".. ذكرياتي مع هذه القطعة الموسيقية ترجع إلى منتصف الثمانينيات في دور الموصل القديمة وأيام الشباب.
المنبه يرن كي أحمل حقيبتي الظهرية المهترئة من السفر والترحال وهذه المرة صوب جزيرة لها ثقلها الكبير ومكانتها في التاريخ الإسلامي والإنساني ،إنها جزيرة صقلية في أقصى جنوب ايطاليا .بعد إفطار من قهوة نمساوية من فيننا وتين من كوردستان وكذلك كليجة كوردية كان السفر والرحيل من مدينة غراتس النمساوية والتي مضى لي فيها اكثر من عقدين وغربة غدت لي وطناً صوب عاصمة النمسا فيننا ولياليها.
هذه المرة في فجر ربيعي والمسافة استغرقت ساعتين بالسيارة وبرفقة قرص أغان كوردية من كوردستان تركيا أهداني إياه في رحلتي الماضية الفنان عصام حجي طاهر مشكوراً.
وقد عدت منها قبل أسبوعين برفقة ذكريات حلوة لمدينة تسمى بعشيقة وأمسية شعرية بين ناسها الطيبين الذين اغمروني بحبهم. وبعد العودة إلى دهوك إذا بأضواء مدينتي الموصل تشع من بعيد وألهبت في روحي الشوق لهذه المدينة التي قضيت فيها طفولتي المؤلمة وشبابي.
تبعد الموصل عن بعشيقة 17 كيلومتراً .. هذه الذكريات غزتني وأنا أتوجه إلى مطار فيننا كي أحلق صوب جزيرة صقلية.. ذكريات قرية الشيخ حسن وصوامعها والوطن الابيض ووالدتي وصلواتها التي ترحل معي أينما اتجهت في رحلاتي.
أقلعت بنا الطائرة الساعة السابعة والنصف من نهار ربيعي مشمس لتحط بعد ساعتين في مطار كاتانيا في جزيرة صقلية.
جزيرة صقلية وما يكمن بين ثناياها من حكايات وتاريخ قديم في سجل الإنسانية.. وكذلك حاضر ثري بالفن والرومانسية الصقلية.
وكانت لكل الغزوات في التاريخ القديم والحضارات التي تعاقبت عليها على مدى 2500 عاما بصمات كبيرة وواضحة في تاريخها العريق وحضارتها الأصيلة.. فاليونان مثلاً اخذوا منها ومنحوها فن العمارة اليوناني.
وكذلك نلاحظ تأثير الفن البيزنطي على ثقافتهم.. تعد البيوت الصقلية من أجمل البيوت في أوربا.. كذلك كانت صقلية المركز الرئيسي لعصابات المافيا فرأيت صورا لرئيس المافيا على فانيلات تباع للسياح.
مساحة صقلية24807 كليومترا مربع وتشتهر ببركان جبل"إتنا"، أكبر بركان حيوي ونشط في أوربا يبلغ ارتفاعه 3323 مترا.
تعد جزيرة صقلية أكبر جزيرة متوسطية.. وترجع شهرتها لأسباب كثيرة منها آثار الحضارات المتعاقبة عليها.. وكذلك غابات البلوط وأشجار اللوز وجبال العنب وكذلك أشجار الحامض والبرتقال والزيتون والنخيل.
ومابين أكواخ الجبال تنتشر الكروم والحدائق الجميلة والرومانسية والطبيعة الخلابة والشلالات والجبال الشاهقة والشواطئ الرملية. تترك صقلية لدى الزائر انطباعات رائعة وصورة من الصعب نسيانها وتأثير شعبها اللطيف المرح والمحب للنكتة.. بوسع الفنانين وعشاق الفن والباحثين عن الآثار الفنية والكنوز والتحف من زمن الباروك العثور عليها.
بالرغم من أن نشأة الباروك كانت في القرن السادس عشر في روما وبعدها ب 50 عاما جاءت الى صقلية، لكن الفنانين الصقليين تمكنوا أن يجدوا للفن الصقلي في زمن الباروك أسلوبا جديدا.. لهذا يعتقد البعض بأن مركز الباروك كان في صقلية.
في مطار كاتانيا حيث حطت بنا الطائرة كان في انتظار مجموعتنا باص لينقلنا إلى فندق على قمة جبل في مدينة تاورمينا.. استغرقت المسافة أكثر من ساعة، لكن الطريق كان حلم صباح ربيعي حيث الطبيعة القاهرة والأنفاق الجبلية الرائعة وشواطئ البحر الثائر وأمواجه العاتية.. من الشارع الرئيسي استقلينا التلفريك الكهربائي ليحلق بنا الى الفندق على قمة الجبل.
وأنا أحلق عاليا عاليا فوق طبيعة صقلية وشوارعها وجسورها المعلقة بأهداب السماء، غزتني مسحة حزن وتذكرت شارع"دهوك ـ باعذرة" وقد مضى عليه 19 عاما ولم يكتمل بالرغم من أنه طريق يؤدي الى العاصمة اربيل.. وحلمنا أن ينتهي الشارع وليس بناء جسور معلقة.. و بالرغم من كل شئ إنه الوطن وسيظل حبيبنا وفي القلب ابداً.
وصقلية تغزو قلوب الغرباء قبل السكان بجمالها وطبيعتها وتستمر الرحلة....
القسم الثاني
"جارديني ناكسوس" كانت مستعمرة اليونانية في قرون قبل الميلاد ومن هذه المستعمرة قدم اليونانيون الى مدينة "تاورمينا" وشيدوا المدينة وتركوا آثارا خالدة منها المسرح اليوناني. وبعدهم جاء الرومان بقيادة القيصر"اوكتافيان" عام 36 ق.م ولغاية 300 م الذي زرت قصره في مدينة"سبليت"الكرواتية الصيف المنصرم.
كذلك ترك الرومان آثارهم في تاورمينا ومنها المسرح الروماني وفن العمارة والموزاييك المنتشر في المدينة ومدينة الرياضة والهياكل والقبور.
أما حكاية هذه المدينة مع العرب فقد غزاها العرب مرتين في القرن العاشر وفي عام 1870 تم غزوها من قبل الجرمانيين. كانت جزيرة صقلية نقطة التقاء لكل نبلاء أوربا.
وكان للشاعر الكبير "غوته"التأثير الواسع على ثقافة وحضارة صقلية وكذلك انعكاس جماليتها على أعماله لأن الكثير منها كتبه في هذه الجزيرة.. كذلك يقام حاليا في هذه الجزيرة مهرجان سينمائي عالمي.
مدينة ناكسوس إرث الإنسانية والتاريخ
قدم اليونانيون إلى مدينة ناكسوس عام 755 ق.م واستوطنوا فيها.. هذا ما وجدته على تمثال معاصر على شواطئ البحر لفنان وتذكاراً لاولمبياد .1960 وكان قدح النار الاولمبية الذي أوقد في روما جلب إلى صقلية وشيد هيكل جميل من أعمدة يونانية كربط بين اليونان وحضارتها والرياضة التي تجمع الشعوب والأوطان.. صقلية هي مركز المافيا والمافيا بالايطالية "كوسا نوسترا"أي" شأننا".
وقد مثلت أفلاما ومسلسلات حول عصابات المافيا أشهرها "العراب ".. وحين حاولت الحديث مع الصقليين حول المافيا كانوا يمتنعون عن الحديث.
متحف الآثار في ناكسوس تاريخ من حضارة إنسانية
زيارة إلى متحف الآثار في مدينة ناكسوس زيارة إلى عمق التاريخ الإنساني الخالد وحفريات مستمرة في سبيل البحث عن التاريخ وما تخبئه الأرض،ناكسوس معقل اليونانيين والآثار الموجودة في المتحف موزعة على أربع مراحل:مرحلة 800 عام ق.م، مرحلة 500 عام ق.م،مرحلة الآثار اليونانية،مرحلة الآثار الرومانية والبيزنطية.
توزعت الآثار والتحف الثمينة في مبان ومعارض وصالات ومنها الأواني الفخارية والمعدنية وجرار الماء والمحاريث وعملات نقدية وأباريق وتماثيل لشخصيات تاريخية وأجزاء وقطع كثيرة من فن الخزف.
وقد جلب اليونان التحف من بلادهم إلى هذه المدينة .وتلك التحف تبرز جمالية الفن والرسم وكذلك النقش ومدى التقنية العالية.
تنوعت الأعمال في هذا المتحف النادر الرائع وكذلك بينت العملات النقدية المعدنية بأنها ترجع إلى 400 عام ق.م وهناك قسم آخر للنقش والنحت على الدور والحجر في جزيرة صقلية لمئات الأعوام ق.م.
وفي صالة المتحف شاشة كبيرة لعرض بعض الأعمال التي يقتنيها المتحف وشريط حول اكتشاف الآثار في عمق البحر وجلبها بطرق يمكن الاحتفاظ بها وتقيها من الكسر.
أما في الحديقة الكبيرة فهناك أقسام للحفريات حول الآثار القديمة لأربع مراحل من تاريخ المستعمرة اليونانية ناكسوس. وكذلك تنتشر أشجار الحامض والبرتقال والتوت. ويمتد تحت ظل سور المتحف الكبير الطويل الميناء الذي كان في زمن اليونانيين.
وتحت ظل شجرة الزيتون وبجنب البرتقال وحضارة اليونان ميلاد قصيدة كوردية "مابين الطلقة والنار كنت أنت،ومابين البياض والبحر وجع زمانك،وما بينك وبيني كان الوطن".
للجزر التأثير الواضح على حياة الإنسان فمؤلف الرواية اليونانية"معلمة المدرسة ذات العيون الذهبية"جاء من المدينة وهو لا يحمل شهادة دراسية ولكن سحر جزيرة"ليسبوس" اليونانية جعله روائيا رائعا.
للبحر وصراخه وهديره ووجعه الوقع الكبير على روح ومشاعر الإنسان وبالأخص الأدباء والفنانين. فالروائي العالمي "ارنست همنغواي"كان له في كل جزيرة ومدينة شاطئية ركن و مقهى باسمه.. ناكسوس مدينة على البحر وتكثر فيها الآثار وعدد سكانها لا يتجاوز 10آلاف نسمة. ولكن السياح أكثر من أهل المدينة.
تكثر فيها المطاعم الصقلية وأنواع الأسماك وكذلك الأكلات العربية ومحال لبيع الأشياء التذكارية للسياح .التنزه على شواطئ ناكسوس رحلة إلى عالم رومانسي وتستمر في صقلية الرحلة.
القسم الثالث
حرر البطل غاريبالدي جنوب ايطاليا من المستعمرين عام 1860م وانطلقت قواته المؤلفة من كتيبتين من مدينة ناكسوس ومن شواطئها الكبيرة لتحرير ايطاليا وتكريماً لهذا البطل الأسطورة شيدت المدينة تمثالا رائعا له في مركز المدينة بالقرب من شاطئ البحر.
ومدينة ناكسوس تبعد خمس كيلومترات عن مدينة تاورمينا ولها ساحل رملي جميل للتنزه عليه وللسباحة تشرف عليه الفنادق الصقلية والمقاهي. هذه المستعمرة اليونانية التي شيدها اليونانيون عام 735 ق.م والقادمين من جزيرة "ناكسوس" اليونانية،مدينة ناكسوس من المدن الرومانسية.
وهي ذات طابع متميز في فن العمارة والتي طغت عليها بصمات اليونان والرومان والبيزنطيين.
واليوم يعيش على ارض صقلية 5 ملايين صقلي و 5 ملايين يعيشون في الأراضي الايطالية و18مليون صقلي يعيشون في الولايات المتحدة.وهذه الأسباب والهجرة الكبيرة منها يرجعها البعض إلى قوة المافيا والتي تعد صقلية مركزها الرئيسي والعاصمة باليرمو دائرة النفوذ لهم.
جزيرة صقلية لها شهرة كبيرة في مجال التصميم والفنون والتحف الأثرية. قبل 10 آلاف عام سلكت جزيرة صقلية الطريق صوب إمبراطورية التصميم والفن واشترت الكنوز الفنية وسلكت الأساليب المتنوعة والتقنية العالية.
فمثلا شيد اليونانيون الأعمدة والهياكل المقدسة الفنية .أما البيزنطيون فقد جلبوا الحب على شكل نماذج وبألوان زاهية على أوراق ذهبية موزائيكية.
وهذا ما وجدت الموزائيك بصورة مكثفة في محلاتهم ومتاحفهم. وكذلك العرب جلبوا لها نماذج من الزخارف والفنون من الشرق.
أما الفن الباروكي الاسباني فقد غزا الجزيرة في القرون 17 و 18.
ليالي الأنس والرومانسية في مدينة تاورمينا
أيام وليال عشتها في مدينة كأنها نسجت بخيوط الرومانسية والجمال. وليس بوسع العين والشعر والأدب وصف هذه المدينة في جزيرة صقلية وتعد من أجمل المدن التي زرتها على الإطلاق. وتترك لدى الزوار انطباعا رائعا ومذهلا .
مدينة تحتفي بالفن في كل ركن وزقاق وشارع. بالرغم من أن كل مدن وقرى جزيرة صقلية تجثم على قمم جبال شاهقة وكأنها نجوم معلقة بأهداب السماء.
مدينة تاورمينا، بالرغم من أن عدد سكانها لا يتجاوز 11 ألف نسمة، إلا أن مركزها وأزقتها مليئة تغص بالسياح على طول أيام السنة وأزقتها ضيقة للغاية ومركزها رومانسي وجذاب وبيوتها تتدلى منها النباتات والمتسلقات وقد طرزت بفنون الإنسانية.
الحضارات التي قطنت فيها وكأنها أشبه بلوحة تشكيلية وهذه المدينة هادئة للغاية للباحثين عن الهدوء وبعيدا عن ضوضاء المدينة والعولمة وفي إحدى مقاهيها والتي تقابل الجبل البركاني الثائر"إتنا"ومقهى راق للغاية.
كلفني إبريق شاي لمجرد أني أحببت أن استمتع به أمام جبل البركان 17 يورو. والشاي كان في إبريق فضي "عش رجبا ترى عجبا".
أجمل الكنائس القديمة ومطرزة من الداخل بفنون راقية وزخارف وموزائيك قديم وأعمدة مرمرية حافظت على قوة الفن والبقاء لهذه الكنائس. التصميم في هذه المدينة سواء في الغاليريات أو المتاحف أو محلات خاصة أو بيوت العامة أو الأبنية الحكومية القديمة يترك عند الزائر انطباعا باهرا.
ولقد عاش في هذه المدينة أدباء وفنانون وملوك تغنوا بها وانبهروا بجمالها وموقعها .فالورود لا تفارق هذه المدينة سواء في حدائقهم أو شرفاتهم أو مقاهيهم على المناضد. ولقد كانت تاورمينا في القرن 9 عاصمة التجارة للبيزنطيين.
في الصيف من المستحيل العثور على فندق أو حجرة للسكن.. فهي تكون قبلة الزوار من كل أنحاء العالم وبالأخص النمساويين يمكثون فيها طويلا. ولقد خلف اليونان وراءهم في هذه المدينة المسرح اليوناني الكبير الذي يطل على البحر في منظر جميل.
وقد حافظ على مدرجاته عكس المسرح الروماني الذي يقع في مركز المدينة ووسط البيوت .وفي مركز المدينة حيث الكاتدرائية ومتحف التراث الشعبي والذي يبين قوة لعبة الدمى والاشخاص التي تفنن بها أهل هذه المدينة على طول التاريخ القديم والحديث أيضا.. ويقع المتحف في بناية قديمة.
في مركز المدينة حيث تنتشر المحال والهدايا التذكارية ومنتجات صقلية مثل العسل والشراب الايطالي والايس كريم المشهور عالمياً ومحال تجارية لبيع اللوحات والخزف.
وأنا أهيئ نفسي لأتسلق جبل البركان في اليوم القادم وتسير الرومانسية الصقلية ومعها تستمر الرحلة.
القسم الرابع
بركان اتنا.. أكبر بركان حيوي في اوربا
يحبذ العالم الغربي دائما ان يؤرشف اللحظات الحلوة بالصور واللوحات والأحلام كي يتذكروها في المستقبل.
أما فلاسفة الشرق وكذلك حكماء الشاوولين يقولون أن علينا الاستمتاع بحياتنا الحاضرة ونقتنص اللحظات الحلوة دون العودة إلى الماضي والذكريات.
وانا بدوري اتفق مع الكلام بالرغم من اني التقط اللقطة والصور لغيري كي يتمتع بها من لم يعش اللحظة.
انه صباح ربيعي حيث الشمس ترسل اشعتها الذهبية وتطرز جبال صقلية الشاهقة. وموعدنا المجموعة القادمة من النمسا بالتوجه صوب الجبل البركاني"اتنا".
انطلق بنا الباص السياحي عبر القرى المعلقة بسفوح الجبال وانفاق تحت الارض وجسور معلقة في الهواء.
استغرقت المسافة من مكان اقامتنا لغاية الجبل ساعة كاملة. واثناء عبورنا القرى لاحظنا آثار الهزات الارضية على بعض القرى ومنها حيث تمت وقاية احدى الكاتدرائيات الكبيرة باعمدة ضخمة من اجل ان تصمد في وجه البركان.
على سفوح الجبل البركاني ولغاية وصولنا الى منطقة التلفريك كانت سفوح الجبل سوداء بالحجارة البركانية "الحمم".
انه بركان "اتنا "والذي يبلغ ارتفاعه 3323 مترا ويعد هذا البركان المغناطيس الكبير لجذب السياح الى هذه الجزيرة وهو انشط بركان في أوربا حاليا.
وبوسع المشاهد ان يرى قمة جبله الدخاني وكما يسمى بالبركان المدخن، لأنه يرسل الدخان طول الوقت من فوهته.
ومنذ عام 1987 يعد هذا البركان وما حوله ب قسم المنتزه الوطني"منتزه اتنا الوطني".
وفي قمة الجبل يمكن مشاهدة حفر بركانية لبراكين صغيرة وحمم بركانية وكأنه بانوراما الجمال.
والحجارة السوداء الصغيرة والناجمة من الانهيارات كأنها صحراء سوداء. ومنظر الحجارة السوداء يسافر بنظرك لغاية الغابات المنتشرة بكثافة في جزيرة صقلية .. ويعد اتنا اشهر بركان ذي إشعاعات وحيوية.
ويبين التاريخ بأن البركان قد تعرض لانفجارات وفوران في عام 475 ق.م 1169 م، 1339 م،1381م.. والدلائل حول هذه التواريخ كثرة الحمم البركانية والاحجار الضخمة في الجزيرة وعلى شواطئ البحر.
ولكن أكثر انفجار عنفا كان عام 1669م واستغرق 22 يوما ودمر 16 مدينة في منطقة كاتانيا.
اول السياح الرسميين وصل "اتنا" كان في عام 1493.. وللصعود على جبل اتنا في الصيف الساخن يتوجب على المتسلق ان يرتدي ملابس شتوية بالإضافة إلى قبعة راس وقفازات. كذلك لمن يرغب بالبقاء على قمة الجبل بخيمته عليه أن يحصل على إذن رسمي من السلطات. وكذلك ضروري ان يحمل المتسلق تلفونه الخلوي معه بالرغم عدم وجود الشبكة في كل مكان من الجبل.
في الساحة الرئيسية وعلى ارتفاع 2000 م فوق الجبل تنتشر المحال والمقاهي وكذلك محال لبيع كل اصناف العسل الحقيقي التي تشتهر المنطقة بها وباسعار معقولة وكذلك اكشاك لبيع الهدايا التذكارية وكذلك اماكن لمن لا يرغب بالسفر بالتلفريك لأنه يكلف مبلغا كبيرا.
ويعد هذا المكان هوية جزيرة صقلية الحقيقية. فكل من دب على ارض الجزيرة له حكاية وذكريات حول الجبل وكذلك يوجد تلفريك شتوي آخر ومنطقة مخصصة للتزحلق على الجليد.
التقيت رجلا طاعنا في السن ينحت من الحجارة البركانية تماثيل وألعابا ويبيعها للسياح. واثناء حديثي معه قال بانه امضى عمره مع هذا الجبل.
وصدفة التقيت على قمة جبل مجموعة نمساوية اخرى وعلى قمة الجبل دار حديث بيننا حول البركان وبعدها تحول الحديث الى الكورد وجبالها وكوردستان مستقلة. ساعات طويلة ونهار ربيعي كامل للتنزه على الجبل في جزيرة لها مكانتها الكبيرة في التاريخ.. والزوار من جنسيات مختلفة وأعمار مختلفة.
وبعد هذا النهار التاريخي ،كانت العودة للفندق ومن طريق اخر كي نمتع النظر بطبيعة جميلة.
وحين وصلت الفندق الجبلي والفكر مشغول بالجبل والبركان وانا اتفرج على جدران الفندق إذا بلوحات ايطالية تزينها، وقتها تذكرت الرسام المبدع سردار كيسته ى حين زرته في غاليري دهوك قبل عودتي من كوردستان.
وقلت لنفسي أليس من الجميل والمفروض ان تزين فنادق كوردستان بلوحات وروائع فنانينا الكورد"واحسرتاه"واقتراح الى وزارة السياحة في اقليم كوردستان وليس بحاجة لجواب!!! نهار جميل مع بركان ثائر يظل في مخيلة من شاهد جبله السامق وتستمر الرحلة.
القسم الخامس والأخير
ماذا تفعل الأعمدة والهياكل اليونانية في صقلية؟ وماذا يفعل الموزائيك البيزنطي؟والكاتدرائيات من شمال فرنسا؟ ولم غرس الصقليون أشجار النخيل والقطن؟ ولمُّ هم عشاق وتواقون للشوكولا والحلويات؟ ولمُّ يملكون عيونا زرقاء بلون البحر والسماء؟كل هذه الأسئلة وأجوبتها يراها الصقليون في ماضيهم وآثار آلاف الأعوام ويقولون بان التاريخ يعيد نفسه لكن بصورة معقدة.
حكاية العرب مع صقلية بدأت من عام 965 واستمرت 200 عاما.. وكانت عاصمة صقلية باليرمو ملهمة العرب ومركز الإشعاع عليهم .ولذلك جلب العرب إليها نظاما جديدا وأشجار النخيل والبرتقال والقطن. تتسامق أشجار النخيل على جوانب الشوارع.
وكذلك قدم إلى صقلية الكثيرون من الفلاسفة والعلماء وكانوا في التقاء مع الحضارة الصقلية ووجود الأسماء العربية لغاية اليوم، مثلا هناك نهر كبير في جبل اتنا واسمه "القنطرة" وحتى جبل اتنا اسمه بالايطالية"مونت جبلوا" اي الجبل.
في اليوم الأخير من رحلتنا إلى صقلية كانت الزيارة لمدينة كاتانيا التي تعد ثاني أكبر مدينة حيوية بعد باليرمو العاصمة.. في الأعوام الخمسة الأخيرة جددت مدينة كاتانيا وأبنيتها من الحجارة البركانية الضخمة السوداء وبواجهة زرقة السماء والنوادي الليلية والمطاعم والمقاهي التي تظل مشرعة الأبواب لغاية الصباح.
أما سوق السمك والفلاحين فيعد من الأسواق التي تترك في النفس انطباعا جميلا.
وفي مدينة كاتانيا تنتشر الأكلات والوجبات الصقلية المشهورة برفقة الموسيقى وكذلك الأكلات العربية ومنها البرغل.
وفي شوارع كاتانيا يمكن مشاهدة أبنيتها وفنون العمارة تبين مدى دقة التصميم..
وحين يجري الحديث عن التصميم في صقلية فمدينة كاتانيا تأتي في المقدمة من حيث القدم والآثار والمعاصرة أيضا وجمالية المدينة ورومانسيتها.
يبلغ عدد سكان كاتانيا 300 ألف نسمة وقد شيدت هذه المدينة عام 729 ق.م وقد غزيت المدينة من قبل الرومانيين والبيزنطيين والنورمانديين.
وفي عام 1669 حين انهار الجبل البركاني "اتنا" تم غمر الجزء الأكبر من المدينة تحت الحمم والحجارة البركانية.
وتوجد في المدينة محطة قطارات وقصور تاريخية مشهورة ومنها قصر جيوفاني وقصر دوتومو الذي يعد إحدى تحف الإنسانية وحضارة العالم.
وكذلك وجود مسرح ماسيمو باليني وكما يدعون بأنه اكبر مسرح في أوربا.. ويمتاز مركز المدينة الحضاري الثقافي بعرضه مجموعات من الفن الحديث في معرض دائم وكذلك الفن والتصوير في فترة الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه المدينة كل وسائل الراحة للزوار والقادمين إليها من حيث وسائل الانترنت والبريد ومكاتب السياحة.
ففي كاتانيا وتاورمينا وناكسوس وكل المدن الصقلية الفن والجمال والرومانسية لا تتجزأ من جسد هذه الجزيرة.
فاللوحات التشكيلية ومحال الخزف والحفر على الخشب والنحت وزخرفة الأبنية الفائقة الجمال، وكذلك الحداثة التي تعيشها الجزيرة إضافة إلى تاريخها عبر حضارات متعاقبة عليها وجبالها الشاهقة التي تناطح السماء وقراها التي تغفو على قمم الجبال جعلت من الجزيرة شعاع العين وعشق القلب وبصمة مضيئة في ذاكرة الإنسان في توقه إلى الجمال والرومانسية.
قبل عودتي وفي زيارة الوداع زرت مقبرة الحيوانات لأرى أين تدفن الكلاب والقطط الصقلية فوجدتها مقبرة جميلة والاهتمام بها لا يوصف وشاخصات القبور مرسومة عليها صور الكلاب والقطط وتاريخ الولادة والوفاة وتوقد عندها الشموع تذكارا وتجلب الورود لهم في المناسبات.
وتذكرت الحكمة الفرنسية حين زرت باريس "من يمت في باريس قد عاش حياة" وأما أنا أقول: كل كلب مات في صقلية قد عاش حياة.
وبعد خروجي من المقبرة كنت اردد مع نفسي"مرينا بيكم حمد وإحنا بقطار الليل" .ودعتنا صقلية بأمطار شديدة في اللحظات التي وصلنا المطار بعد أيام في جزيرة يعجز الوصف عنها.. فهي جزيرة الشعر والتاريخ والأدب والرومانسية والجبال وبلاد البرتقال والبراكين والحسناوات ولكن!!! انتهت الرحلة.
BY:www.alarabonline.org