هدية حسين تكتب عن الأحزان العراقية أيضا وأيضا

 
الروائية العراقية هدية حسين
بيروت- جورج جحا
الكاتبة العراقية هدية حسين في مجموعتها القصصية الاخيرة "حبيبي كوديا" هي تقريبا نفسها كما في كثير من اعمالها السابقة وربما باختلاف وحيد هو ان الاحزان العراقية "تعتقت" هنا وتحولت الى فيض يتحرك بنفسه ويبقى على الكاتب عامة ان يجد له المخرج او الشكل الفني الملائم او المتوفر احيانا.وهي بارعة في ذلك حيث تدعو الحاجة اليه.

وهدية حسين تكتب بتصويرية وشعرية وعصبية وضبابية تتجاوز القول المباشر لتتركنا في عالم متعدد الوجوه وكلها وجوه متعبة حزينة ومفجوعة ومفجعة ايضا. صحيح ان بعض قصصها في هذه المجموعة يعتمد ما يشبه القول المباشر لكن هذا يأتي وكأنه "خلع" غاضب للقول الفني لابراز واقع ربما عجز الفن عن الاحاطة بابعاده المفجعة.

ويتسم اسلوب هدية ايضا بقدرة على التقاط المحدود من الاشياء او اللحظات او المشاعر ونقلها من محدوديتها بل نقلنا معها الى حالات بشرية عميقة تفيض غالبا باحزان شاسعة ذات اغوار. قصصها مليئة بالفقد والحنين الى فردوس مفقود.

مجموعة "حبيبي كوديا" اشتملت على 23 قصة جاءت في 163 صفحة وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بلوحة غلاف للفنان العراقي عبد الامير علوان.

القصة الاولى "ارجوحة الوجوه" جديرة بتوقف مفصل عندها. انها تشكل لمحة سريعة حافلة تروي آلام العراقيين العتيقة وتشردهم في انحاء الارض والعمر يمر والزمن يسير ولا يبقى دون حراك سوى الألم الراسخ والعذابات.

والواقع ان القصة هي ومضة تعيد الاحزان الكثيرة الى النفس. انها صرخة لم تعد تدوي بل تحولت الى حزن يغور في النفس وتروي ماضيا وحاضرا تحولا الى رماد بكل معاني الرماد. وبعد كل فجيعة انتظار لفجيعة آتية لا محالة والانسان لم يبق له غير الذاكرة. وبعض الكتابة يهدف الى ان يحول دون غياب هذه الذاكرة التي بدت كأنها "الذكرى" الوحيدة. كأن الذاكرة اصبحت الشكل الوحيد لما تبقى من الحياة.

وفي ما يبدو انه يشمل الخاص والعام لان العام العراقي اصبح خاصا في مدى تاثيره في حياة الافراد قدمت الكاتبة للقصة بقول لوان رايس "نحن لا نريد نسيان من احببنا سواء الذين رحلوا عن الدنيا او الذين خرجوا من حياتنا."

بدأت الكاتبة بالقول "لم تكن سوى ومضة مرت في الرأس تلاها حلم يقظة لم يمكث طويلا لكنه ترك وهو يتوارى هسيسا موجعا في الروح يشبه كسر زجاج تحت الضلوع."

وفي ما يذكر بتعبير "خرج ولم يعد" اضافت تقول "تساءلت المرأة المزحومة بالافتراضات.. ماذا ان صح ما ورد على الخاطر؟ عندها تسارعت دقات قلبها وانكمشت على نفسها وهي تردد.. اللهم احفظه من الكارثة."

ووسط احزان العراق يصبح الجميع كثيرون اعزاء حتى الذين صار بيننا وبينهم بعد فالذاكرة هنا تحتفظ بالجميل فقط محافظة على الذات. وقد قيل ان بؤس الحاضر يجعلنا نرتد الى الماضي او نقفز الى المستقبل. ولان طريق المستقبل ولو تصورا مغلقة في وجوه كثير من "المعذبين في الارض" لم يبق سوى ما مضى. وهنا ما يصح على الفرد قد يصح على الجماعة.

قالت "كانت قد هجرته منذ زمن بعيد ولاحقا سوف تتذكر انه هو الذي هجرها لاسباب لم تعد تتذكرها الآن... لم تبق سوى تلك الذكريات الحلوة التي انطبعت على لوح الذاكرة حتى غدت صورة الرجل الذي احبته يوما خالية من الخطايا تراودها في ايامها الشاحبة كضوء خفيف."

و"الاحتمالات" وسط الاحزان العراقية عديدة كما في قولها "عادت اليها الومضة مثل نصل حاد واخترقت رأسها الموجوع فرأته مسجى على اسفلت شارع لم تعرفه من قبل... ثم مشظى على رصيف مثلوم الحواف... وتواترت الومضات فشاهدته مذبوحا على "طريقتهم". ما الذي جاء به الى الرأس؟ كان قد ذهب الى النسيان وذهبت هي الى المنفى باحثة عن مكان يحتوي احلامها الباهتة."

وتستعير ابياتا من الشاعر العراقي عدنان الصائغ تشير الى الاحزان العراقية وتحملها الينا من خلال ما يشبه بكاء صاحب امرىء القيس. يقول الصائغ "سنضرب في التيه/ ضرب الرمال القمار/ فإما نرى البحر يا صاحبي/ او الموت معا/ غربة في الرمال."

وتستعيد هذه الاحزان مع الشاعر اذ يقول "افي كل يوم سرير جديد/ ومنفى وجوع/ افي كل يوم سأوقد نفس الشموع/ واطفؤها بالدموع/ شمعة شمعة وانام؟"
في قصة "رصاصة واحدة لا غير" تصوير لصراع الفنان مع شخصياته وتمردها عليه احيانا.

الشخصية هنا لا تتمرد على "خالقتها" الكاتبة فقط بل على الحياة التي لم تعد تطيقها. الكاتبة تصف صراعا بينها وبين شخصية قصصية تتحكم بها تطل وتختفي ليلا نهارا في المنزل ومكان العمل وقد جعلت الفوضى والشرود يسيطران على الكاتبة.

المخلوق هنا يكاد يقتل خالقه لا العكس. هي تطلب "التجسد" وتسعى الكاتبة الى رسمها او "اخراجها" ويستعصي الامر. انها في عراق الدم والموت.

المسرح هو العراق فكيف تنتهي القصة وبأي نوع من انواع الموت؟ تجيب الكاتبة عن هذا بقولها "البيت فارغ الا مني ومنها. جمعت قصاصات الورق. كل ما رأيت من خيالات.. في المقبرة وفي الشوارع حيث مرت نعوش الاطفال ولافتات الموت... رأيتها تدخل الى بناية تأكلها النار ثم تخرج حاملة كومة ملفات محترقة... يحدث هرج ومرج وعويل وصراخ تبتعد وتنزوي خلف شجرة مادة رأسها المثقل بالهموم. تعاين رتلا من الدبابات يقوده جنود لا يشبهون جنود البلد...

"ترتعش اصابعي وتلاحق المرأة الخائفة وهي تأمرني ان اتخلص منها الى الابد بنهاية تليق بعذاباتها. وحين اعجز واطلب مساعدتها ترفع كفها وتضم ثلاث اصابع فيما تبقي على السبابة والابهام مرفوعين باتجاه صدغها. ودون اي شك في ما رأيت او سمعت انطلقت رصاصة.. رصاصة واحدة لا غير كانت كافية لتختفي المرأة... وتنتهي معها القصة."

في قصة "في قلب الليل" نواجه الفقد والموت والعالم المتحول بشكل قاس مرعب. كيف نعيد خلق هذا العالم؟ لا مجال هنا غير العمل الفني.

تسرد هدية بروح وصور شعرية. بطلة القصة في الحديقة العامة بينما الناس الذين يطاردهم الموت يقبعون في المنازل والملاجيء. هل بقيت هناك حدائق؟ كل شيء تغير.
تقول هدية "وحدي اجلس مؤطرة بالذكريات التي لها طعم العسل.. والحنظل ايضا. تأتي وتنفلت. تقترب وتنأى تاركة في المكان خيالات رجل عاد من الحرب بملامح مشوهة... المساء شاحب. وشاحب وجه الرجل الذي عاد من الحرب وتغيرت ملامحه. خرج من الذاكرة ثم رجع وانطمر في عتمتها خوفا من حرب اخرى."

اما كيف تغير الكتابة كل ذلك فلها فيه هذا القول "سأعيد كل شيء الى ما كان وانا اجلس على المقعد المهمل كل مساء. اصف الحروف على الحروف وأدون حكاياتي المرتجلة في قلب الليل مادام النهار قد اختفى الى الابد."

في قصة "ذاكرة تتجول في شارع الرشيد" استعادة في الخيال لاطايب بغداد واماكنها الحلوة المألوفة.. متاجر ومطاعم ومقاه وملاعب ليلية وروائح ونكهات.. وكل ذلك "كان".

قصة "خطانا الغريبة" فيها لعبة نفسية فنية رائعة من تلك التي تبرع هدية حسين في تصويرها منذ قصة "رجل في فنجان" في مجموعتها القصصية "قاب قوسين مني". انها لعبة الواقع والذاكرة.. ما يبدو وما نظنه متخفيا خلفه.. ما "نتوهم" انه وهم وما نتوهم انه حقيقة؟ وهل يمكن ان يكون المتوهم حقيقيا اكثر من الحقيقة.

انها تصل بنا الى ما يشبه احجية شوان تزو الذي ما عاد يعرف ان كان هو شوان تزو الصيني يحلم بانه فراشة او فراشة تحلم بانها شوان تزو الصيني.

تدخل في القصة بالاضافة الى كل ذلك وبقوة مرهفة الاحزان العراقية والتشرد وفقد الاب بسيف الظلم المتسلط والارهاب. وهناك ايضا سمات مشابهة تتكرر في قصة "وقت الاشباح".
ووردت في النهاية "مقاطع قصصية" وكل مقطع منها اسطر قليلة تشكل مشروع قصة او "قصة قصيرة جدا". "رويترز".
BY:alarabonline.org
8.1.2011