بعد «مجزرة الاسكندرية» لم يعد هناك أي عذر يبرر ايديولوجيا الهزيمة العربية
حذام خريّف
في ذروة الأحداث الدامية التي حوّلت تهاليل استقبال العام الجديد إلى نواح على أكثر من عشرين ضحية فقدت حياتها نتيجة عملية انتحارية أمام مبنى كنيسة القديسين في الإسكندرية، وبينما يحفر معول التفرقة في جسد الوحدة الوطنية، يستحضر ملايين العرب تلك المشاهد المؤثرة في رائعة نجيب محفوظ وحسن الإمام فيلم "بين القصرين".. التي أرّخت لمظاهرات ثورة 1919 حيث التحف جميع المصريين، أقباطا ومسلمين بالعلم المصري، وهتفوا بصوت واحد "يحيا الهلال مع الصليب"..
وفيما تحوّلت دماء ضحايا مجزرة الإسكندرية إلى حبر كتبت به الصحف العربية بمختلف إيديولوجياتها وانتماءاتها محذّرة من هذا السرطان الذي ينخر جسد الوطن العربي، ويهدّد بإشعال الفتنة بين أبنائه مسلمين ومسيحيين، اختارت مجموعة من المطربين الغناء وسيلة للتعبير عن رفض هذا الطاعون الذي يهدّد بنسف قرون من التعايش واغتيال ثقافة سمحاء عمرت مئات السنين بين الطائفتين المسلمة والمسيحية..
في غمرة هذه التحرّكات خرجت مجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء والمثقّفين في مصر في مسيرة تضامنية مع أهالي شهداء الكنيسة، في خطوة نادرة، اتحدت فيها صيحات أهالي الضحايا مع أصوات الفنانين والأدباء المصريين والعرب وتكلموا بصوت واحدة مندّدين بحادث التفجير المروع.
ما حدث في الاسكندرية، وما يحدث في أراض عربية أخرى بشكل أو بآخر، يتطّلب مثل هذه الوقفة الفنية الإعلامية؛ بل إن الفن، باعتباره جزءا من منظومة إعلامية شاملة تقودها الفضائيات، هو اليوم أهمّ "سلاح" يمكن أن تتسلّح به المجتمعات العربية للوقوف ضدّ مخطّطات خارجية تسعى لبثّ الفرقة والتقسيم والتجزئة.
ولكن الكلام وحده لن يجدي نفعا؛ والنيات الطيبة لن تنقذ مستقبل الوطن العربي إذا بقي حال الفن العربي "هزيلا" تسيّره فضائيات تصدّر إلينا ثقافة "التطرّف".. إما التطرف في التشدد الديني أو التطرف في "التحرّر"؛ ومثل هذه القنوات تتغذى بالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي الراهن، وما يشهده من أميّة، وبطالة، وفقر، وعنوسة، وحروب، وانقسامات،... والقائمة تطول وتطول.
"سالومي"، الجميلة عندما أرادت الانتقام من النبي يحيى، عليه السلام، لم تجد طريقة أفضل من الرقص لإغراء الملك هيرودوس حتى خرّ راكعا أمامها وأهداها رأس النبي يحي، عليه السلام، على طبق كما طلبت؛ وهو ما تفعله اليوم القوى الاستعمارية الجديدة، التي لم تجد وسيلة أقوى وأخطر من الإعلام لتنفث من خلالها سمومها وتستلب ثمالة الوعي الباقية في عقل المشاهد العربي.
وفي مجتمعات عربية يبلغ عديد الأميين فيها 57 مليون أميّ؛ وتعاني من ارتفاع نسبة البطالة والعنوسة والفقر، يصبح إرباك الوعي وصرف الانتباه أمرا يسيرا جدّا؛ وقد وجدت بعض الجهات المعادية في هذا النفق المظلم ممرّا لتنفذ من خلاله إلى قلب المنطقة العربية؛ فما من وسيلة أفضل من "أفيون الفضائيات" يمكن أن تساعد على نشر الفتنة والعبث بعقول مواطنين عرب يعيشون حالة من "الغل والحقد" السياسي ولّده وهن اجتماعي وكرّسته هزائم لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. "مسلمون" ضائعون بين فضائيات إسلامية توقّفت عجلة الزمن بشيوخها عند قرون غابرة من التاريخ الإسلامي وفضائيات "متحرّرة" يحمّلها علماء الاجتماع والنفس مسؤولية انتشار ظاهرة التحرّش الجنسي في البلدا العربية .. و"مسيحيون" أضحوا لعبة في يد جهات خارجية وجدت أن طريق النصر يمرّ عبر تخويفهم من الإسلام، وليصبحوا وقودا تشعل به هذه الجهات نار الفتنة في الوطن العربي وتهدّد مستقبله..
ما حدث في الإسكندرية، مهما كانت الجهة التي وراءه، جزء من لعبة كبيرة الإعلام أحد أهم مفاتيحها، فلا يخفى على أحد ما قام به الإعلام الصهيو-أمريكي، الذي جنّد مختلف وسائل الاتصال الإعلامي بدءا من الفضائيات وصولا إلى الانترنت، لشويه صورة العرب والسلمين والتأثير على الرأي العام الغربي منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، هذه الجريمة التي سطّرت بداية تاريخ جديد في علاقة العربي والمسلم بالآخر..
وبعد أن انتهت صلاحية لعبة تشويه صورة الإسلام التي أطلقها الإعلام الغربي، تحول "الشياطين" إلى خطة بديلة وهي إثارة الفتنة الداخلية وتأجيجها لتدمير العلاقة السامية بين المسيحيين والمسلمين في مصر وفي مختلف الوطن العربي.. علاقة لا ننكر أنه كانت تشوبها بعض التوتّرات بين الفينة والأخرى، إلا أن ذلك لم يكن يوما خطرا يهدّد بتفكيك نسيج المجتمعات العربية؛ فلم يشهد العراق في عهوده السابقة مثل ما يعيشه اليوم من تمزق طائفي؛ ولم تعرف مصر، رغم بعض الحالات الشاذة من المصادمات بين الأقباط والمسلمين، فتنة طائفية هدّدت استقرارها وأمنها الداخلي.. والزلزال يهدّد بضرب سوريا ولبنان بعد أن أخذ السودان طريقه إلى التصدع.
كل هذا يؤكد أن سفينة التعايش السلمي التي دامت قرونا بين المسلمين والمسيحيين مهددة بالغرق إذا لم يتول دفة قيادتها ربان ماهر لإنقاذها من هذه العاصفة، ومن التجربة تأكد أن السياسيين وحتى البعض من الأئمة والقساوسة هم أفشل الربابنة في الأوقات العصيبة.
وهذه المرة، السفينة مطالبة بأن يقودها الفنانون والمبدعون ووسائل الإعلام، العربية قلبا وقالبا؛ والفنون جزء من المنظومة الإعلامية، وهي من أكثر المجالات التي جسّدت معنى التواصل الأخوي، بين المسيحيين والمسلمين، الذي تعود جذوره إلى فجر الإسلام؛ فالمسلمون وجدوا السلوى والملجأ عندما اشتدّ عليهم بطش الكفّار في حضرة النجاشي ملك الحبشة المسيحي..
ومدينة الاسكندرية، المكلومة، كانت على مدار التاريخ رمزا للتعايش بين المصريين بمختلف انتماءاتهم الدينية، وقد عكست ذلك كثير من الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية.. بل إن أبرز مثال على غياب هذا الاحتقان الطائفي المزعوم في السابق هو أن أشهر الأفلام الدينية الإسلامية التي تعدّ اليوم من كلاسيكيات السينما العربية، على غرار "وا اسلاماه" و"رابعة العدوية" وغريهما من الأفلام التي تمّ إنتاجها برؤوس أموال قبطية.
بعد تداعيات "مجزرة الاسكندرية" لم يعد هناك أي عذر يبرر ايديولوجيا الهزيمة العربية، وإذا تحجّج العرب بتأخّرهم وفقرهم وضعفهم؛ فإن للحرب جبهات أخرى، أخطر وأقوى من حرب السلاح، هي حرب ترسانتها الفن والثقافة والإعلام في معركة مصيرية لن تحسمها القرارات السياسية بل الأعمال الفنية والاستراتيجيات الإعلامية، فالثورة الحقيقية، اليوم، هي تلك التي تقودها الفضائيات في زمن أصبح لسان حاله يقول "أعطني فضائية، أعطك شعبا..."!.
في ذروة الأحداث الدامية التي حوّلت تهاليل استقبال العام الجديد إلى نواح على أكثر من عشرين ضحية فقدت حياتها نتيجة عملية انتحارية أمام مبنى كنيسة القديسين في الإسكندرية، وبينما يحفر معول التفرقة في جسد الوحدة الوطنية، يستحضر ملايين العرب تلك المشاهد المؤثرة في رائعة نجيب محفوظ وحسن الإمام فيلم "بين القصرين".. التي أرّخت لمظاهرات ثورة 1919 حيث التحف جميع المصريين، أقباطا ومسلمين بالعلم المصري، وهتفوا بصوت واحد "يحيا الهلال مع الصليب"..
وفيما تحوّلت دماء ضحايا مجزرة الإسكندرية إلى حبر كتبت به الصحف العربية بمختلف إيديولوجياتها وانتماءاتها محذّرة من هذا السرطان الذي ينخر جسد الوطن العربي، ويهدّد بإشعال الفتنة بين أبنائه مسلمين ومسيحيين، اختارت مجموعة من المطربين الغناء وسيلة للتعبير عن رفض هذا الطاعون الذي يهدّد بنسف قرون من التعايش واغتيال ثقافة سمحاء عمرت مئات السنين بين الطائفتين المسلمة والمسيحية..
في غمرة هذه التحرّكات خرجت مجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء والمثقّفين في مصر في مسيرة تضامنية مع أهالي شهداء الكنيسة، في خطوة نادرة، اتحدت فيها صيحات أهالي الضحايا مع أصوات الفنانين والأدباء المصريين والعرب وتكلموا بصوت واحدة مندّدين بحادث التفجير المروع.
ما حدث في الاسكندرية، وما يحدث في أراض عربية أخرى بشكل أو بآخر، يتطّلب مثل هذه الوقفة الفنية الإعلامية؛ بل إن الفن، باعتباره جزءا من منظومة إعلامية شاملة تقودها الفضائيات، هو اليوم أهمّ "سلاح" يمكن أن تتسلّح به المجتمعات العربية للوقوف ضدّ مخطّطات خارجية تسعى لبثّ الفرقة والتقسيم والتجزئة.
ولكن الكلام وحده لن يجدي نفعا؛ والنيات الطيبة لن تنقذ مستقبل الوطن العربي إذا بقي حال الفن العربي "هزيلا" تسيّره فضائيات تصدّر إلينا ثقافة "التطرّف".. إما التطرف في التشدد الديني أو التطرف في "التحرّر"؛ ومثل هذه القنوات تتغذى بالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي الراهن، وما يشهده من أميّة، وبطالة، وفقر، وعنوسة، وحروب، وانقسامات،... والقائمة تطول وتطول.
"سالومي"، الجميلة عندما أرادت الانتقام من النبي يحيى، عليه السلام، لم تجد طريقة أفضل من الرقص لإغراء الملك هيرودوس حتى خرّ راكعا أمامها وأهداها رأس النبي يحي، عليه السلام، على طبق كما طلبت؛ وهو ما تفعله اليوم القوى الاستعمارية الجديدة، التي لم تجد وسيلة أقوى وأخطر من الإعلام لتنفث من خلالها سمومها وتستلب ثمالة الوعي الباقية في عقل المشاهد العربي.
وفي مجتمعات عربية يبلغ عديد الأميين فيها 57 مليون أميّ؛ وتعاني من ارتفاع نسبة البطالة والعنوسة والفقر، يصبح إرباك الوعي وصرف الانتباه أمرا يسيرا جدّا؛ وقد وجدت بعض الجهات المعادية في هذا النفق المظلم ممرّا لتنفذ من خلاله إلى قلب المنطقة العربية؛ فما من وسيلة أفضل من "أفيون الفضائيات" يمكن أن تساعد على نشر الفتنة والعبث بعقول مواطنين عرب يعيشون حالة من "الغل والحقد" السياسي ولّده وهن اجتماعي وكرّسته هزائم لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. "مسلمون" ضائعون بين فضائيات إسلامية توقّفت عجلة الزمن بشيوخها عند قرون غابرة من التاريخ الإسلامي وفضائيات "متحرّرة" يحمّلها علماء الاجتماع والنفس مسؤولية انتشار ظاهرة التحرّش الجنسي في البلدا العربية .. و"مسيحيون" أضحوا لعبة في يد جهات خارجية وجدت أن طريق النصر يمرّ عبر تخويفهم من الإسلام، وليصبحوا وقودا تشعل به هذه الجهات نار الفتنة في الوطن العربي وتهدّد مستقبله..
ما حدث في الإسكندرية، مهما كانت الجهة التي وراءه، جزء من لعبة كبيرة الإعلام أحد أهم مفاتيحها، فلا يخفى على أحد ما قام به الإعلام الصهيو-أمريكي، الذي جنّد مختلف وسائل الاتصال الإعلامي بدءا من الفضائيات وصولا إلى الانترنت، لشويه صورة العرب والسلمين والتأثير على الرأي العام الغربي منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، هذه الجريمة التي سطّرت بداية تاريخ جديد في علاقة العربي والمسلم بالآخر..
وبعد أن انتهت صلاحية لعبة تشويه صورة الإسلام التي أطلقها الإعلام الغربي، تحول "الشياطين" إلى خطة بديلة وهي إثارة الفتنة الداخلية وتأجيجها لتدمير العلاقة السامية بين المسيحيين والمسلمين في مصر وفي مختلف الوطن العربي.. علاقة لا ننكر أنه كانت تشوبها بعض التوتّرات بين الفينة والأخرى، إلا أن ذلك لم يكن يوما خطرا يهدّد بتفكيك نسيج المجتمعات العربية؛ فلم يشهد العراق في عهوده السابقة مثل ما يعيشه اليوم من تمزق طائفي؛ ولم تعرف مصر، رغم بعض الحالات الشاذة من المصادمات بين الأقباط والمسلمين، فتنة طائفية هدّدت استقرارها وأمنها الداخلي.. والزلزال يهدّد بضرب سوريا ولبنان بعد أن أخذ السودان طريقه إلى التصدع.
كل هذا يؤكد أن سفينة التعايش السلمي التي دامت قرونا بين المسلمين والمسيحيين مهددة بالغرق إذا لم يتول دفة قيادتها ربان ماهر لإنقاذها من هذه العاصفة، ومن التجربة تأكد أن السياسيين وحتى البعض من الأئمة والقساوسة هم أفشل الربابنة في الأوقات العصيبة.
وهذه المرة، السفينة مطالبة بأن يقودها الفنانون والمبدعون ووسائل الإعلام، العربية قلبا وقالبا؛ والفنون جزء من المنظومة الإعلامية، وهي من أكثر المجالات التي جسّدت معنى التواصل الأخوي، بين المسيحيين والمسلمين، الذي تعود جذوره إلى فجر الإسلام؛ فالمسلمون وجدوا السلوى والملجأ عندما اشتدّ عليهم بطش الكفّار في حضرة النجاشي ملك الحبشة المسيحي..
ومدينة الاسكندرية، المكلومة، كانت على مدار التاريخ رمزا للتعايش بين المصريين بمختلف انتماءاتهم الدينية، وقد عكست ذلك كثير من الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية.. بل إن أبرز مثال على غياب هذا الاحتقان الطائفي المزعوم في السابق هو أن أشهر الأفلام الدينية الإسلامية التي تعدّ اليوم من كلاسيكيات السينما العربية، على غرار "وا اسلاماه" و"رابعة العدوية" وغريهما من الأفلام التي تمّ إنتاجها برؤوس أموال قبطية.
بعد تداعيات "مجزرة الاسكندرية" لم يعد هناك أي عذر يبرر ايديولوجيا الهزيمة العربية، وإذا تحجّج العرب بتأخّرهم وفقرهم وضعفهم؛ فإن للحرب جبهات أخرى، أخطر وأقوى من حرب السلاح، هي حرب ترسانتها الفن والثقافة والإعلام في معركة مصيرية لن تحسمها القرارات السياسية بل الأعمال الفنية والاستراتيجيات الإعلامية، فالثورة الحقيقية، اليوم، هي تلك التي تقودها الفضائيات في زمن أصبح لسان حاله يقول "أعطني فضائية، أعطك شعبا..."!.
BY:www.alarabonline.org
8.1.2011