الحدائق الحسينيّة التونسية.. تاريخ وحضارة وفخامة 2/2

 
سندس الزاير
ترجمة وتحقيق: ماهر بوديّة

إنّ الأوضاع الجغرافية والاجتماعية الثقافية والاقتصادية كثيرا ما تختلف خلال فترة الحكم بالمملكة الحسينية. كان الوضع في البداية مستقرا نسبيا ومزدهرا خاصة منذ حكم الباي الثالث. هذا الازدهار يسّر امتداد الفنون وتقرّر من خلال بناء عديد القصور وسط حدائق شاسعة. وازدهرت العلوم والفنون في صميم هذه البناءات كما ازدهرت أيضا الهندسة المعمارية وفن التزويق الذي كان ثمرة تأليف عناصر منتمية لثقافات مختلفة "روماني، إيراني، عربا مسلمين، شرقي، غربي، أندلسي، مغاربي، تركي...الخ".

لقد كان العصر الذهبي في الفترة الحسينية في عهد حمّودة باشا "1782-1814" فمعه صارت منطقة منّوبة "أروع تجمّع من قصور ودور وبيوت للتنزّه"1. تبدو بعض الحدائق الحسينية خلال هذه الفترة تتّبع النمط الحفصي، فحديقة قصر الورد أو تلك التي بقصر قبّة النحاس مثلا تستعيد العناصر المستعملة لدى الحفصيين. ففي قصر الورد "الرسم البياني العام من طراز الموحّد2، المنتزه أكودالي3 aguedal، الصحن مع أروقته المقوّسة، فسقيّاته وحوض مائه الكبير في الوسط، تيجان الأعمدة من نوع أصليّ الصنع جدّا، تلبيس الجدران بالخزف، كلّ ذلك يذكّرنا في الواقع بما لا شكّ فيه بالعصر الحفصي "القرن 14 و 15"4. إن وفرة الأشجار المثمرة والممرّات المظلّلة بأشجار التوت أو الصنوبر أو النخيل، هذا فضلا عن تجلّي حوض ماء كبير تهيمن عليه مقاعد للاستراحة، تكوّن كلّ ذلك عناصر مشتركة لحدائق الحفصيين مثل ما قام بوصفه وشرحه العلاّمة ابن خلدون5. أمّا جاك ريفولت6 Jacques REVAULT فقد قام بمقارنة الحدائق المحيطة بمحلّ إقامة التونسيين بما هو عليه لدى الجزائريين وكذلك بالمنازه المغربية7.

سواء كان الاستلهام من العهد الحفصي أو مغاربيا فإن حدائق البايات في القرن 18 تجمع نفس الأجزاء: تحديد بسيط في فضاء مسيّج من خلال تصفيف نباتي أو بالجدران تضمّ داخلها أشجارا مثمرة ونباتاتا عطريّة حول مسطّح مائيّ كبير ومقاعد للاستراحة. فهو يتألّف إذن من بعض العناصر ولكن بكثير من الهواء المنعش والألوان. وتنتظم هذه العناصر أحيانا حسب شكل هندسي يذكّرنا بالحديقة الفارسية. وهذا ما نجده على سبيل المثال في حديقة قصر باردو، تحديد في شكل مربّع ينقسم إلى أربعة أقسام، ويتجلّى الماء في شكل نافورة تقوم بترطيب الوسط وتضيف عليه نوتة موسيقية.

تحيلنا هذه العناصر إلى صورة الحدائق في الإسلام. ويمكن أن يُفسّر هذا التأثير بظهور الأندلسيين المطاردين من أسبانيا أو من ذوي أصل تركي من البايات. كما يمكن أن نفسّر أيضا هذا التشابه بحجة أخرى: هي رغبة البايات في تقليد الحفصيين. وفي الواقع كان البايات شديدو الاستلهام من بنائهم وخاصة من خلال قصر العبدليّة الذي منه نسخوا نموذجه عديد المرّات. إن تأثير المسلمين يمكن أن يتجلّى أيضا في تسميتهم الحدائق باسم الجنينة وهي تصغير لكلمة جنّة التي تعني في العربية جنّة الآخرة. لقد تقلّص هذا التأثير بداية من القرن 19 تحت هيمنة الطراز الإيطالي. لقد بدأ هذا التأثير الجديد8متمثّلا في فنّ زخرفة التوريق على المربعات الخزفية التي بلغت ذروتها في القرن 19. ومؤخرا دخلت جميع الميادين الفنية بما فيها الحدائق.

لقد غيّرت عديد الابتكارات الغربية من الهندسة التقليدية. أمّا الحدائق فقد حافظت في البداية على نفس العناصر: نفس الممرّات المحفوفة الجانبين بأشجار الصنوبر، نفس البساتين الزاخرة بالأشجار المثمرة والمروية من ماء الآبار ونفس مقاعد الاستراحة ذات الطابع التركي. كتب جاك ريفلت Jacques REVAULT ما نصّه: "بعض الأملاك الأميرية أو الوزيرية لا تزال مهيّئة ببيوت استراحة "أو مقاعد" مريحة بما يمكّننا من الاعتقاد أنها مستوحاة من صنع اسطنبول أو إسْكَدار"9.

ليس إلاّ بداية من النصف الثاني من القرن 19 حين بدأت الحدائق تعرف تغييرات وتأثيرات مختلفة تتابعت أمدا طويلا. وكان الطراز الإيطالي الذي اكتسح عديد المجالات الفنية هو المهيمن أيضا على الحدائق. هذا التأثير الجديد شهد له بذلك الرحّالة الفرنسي ليون ميشال Léon MICHELLE الذي أشار عند زيارته الحدائق التي على ملك خير الدين بقوله: "لقد صُوّر المنتزه على النمط الإيطالي مع دقّة فريدة، كما يوجد شعب كامل من الأصنام في الضيعات"10. إنّ التمثيل الإلهي في الحدائق التي هي محظورة في الفنّ الإسلامي، ردفتها تقدّم جديد كبناء الفسقيات وفنّ النحت. هذه التغييرات تتابعت كي تمسّ لا فقط الحدود والعناصر المؤسّسة للحديقة وإنّما أيضا النباتات الموظفة خاصة مع مباشرة الحماية الفرنسية.

مستقبل الحدائق الحسينية:
مثال حديقة قصر السعادة بالمرسى

يشهد قصر السعادة – المسمّى سابقا دار السعادة – عن عصر ثريّ بالمعرفة المعمارية، حتى لو عرف تغييرات وظيفية وعديد التبدّلات فهو يبقى اليوم أحد أندر القصور التي احتفظت حديقتها بأثر عندما كانت في الفترة الحسينية. وفي هذا الصدد يستحقّ الموضوع دراسة معمّقة ذات اتجاهين ليكون الفهم أفضل حول إدراك أسلوب الحدائق الحسينية لإنشاء علاقة التي يمكن وصفها "بمشهد طبيعي" بين القصور والأقاليم المحيطة ثم التفكير في المكانة التي يمكن أن تشغلها الحدائق التاريخية في الثقافة التونسية المعاصرة.

- جذور وتأسيس قصر السعادة وحديقته: بُني من أجل سعادة السيادة فحمل اسما للتذكير به. دار السعادة كان في البداية ردّة فعل نبيلة عن حبّ الباي لزوجته. فكان أن بُني محلّ إقامة الباي سنة 1912 عن طريق الناصر باي11 في إطار التاج12.

أقيم برج دار السعادة في وسط الحديقة على أربعة أركان ذات مظاهر مختلفة. كانت الواجهة الرئيسية متماثلة وذات طراز يعود تماما إلى بداية القرن 20 أو ما نسمّيه بالطراز "المستشرق" أو المغربي الحديث.
يتركّب برج المرسى "دار السعادة" على منوال غيره من جزأين فوق بعض: المشترك الذي يكوّن الأساس والبناء المرتفع المخصّص للسكن. "أروقة سُفليّة وأخرى عُلويّة ذات شُرفات تطلّ على الحدائق في أهمّ خصائصها"13. كانت عمارة هذا القصر حسب جاك ريفلت شبيهة بما في المناطق الحضرية أو بالأحرى بما هو معمول به في منطقة سيدي أبي سعيد14.

أمّا الحديقة فهي مهيّئة في شكل مربّعات، فصلت روضاتها المزروعة بممرّات متقاطعة، وكان أحد نقاط التقاطع معيّنا بفسقيّة ينصبب الماء منه في حوض، وهذا الأخير يتمركز وسط حديقة مربّعة، مستلهمةً من الطراز الإيراني المنتشر بقوّة في البلدان الإسلامية.

لقد تبنّى المسلمون الحدائق ذات أربعة حدود حسب الطراز الفارسي "شهار باخ"15 والذين نشروها فيما بعد، وكان هذا التخطيط المتقاطع للممرات معروفا في الواقع جدا في الأندلس منذ القرن 14،16، ثم انتشر في ثلاثة بلدان في إفريقيا الشمالية عبر المهاجرين الأندلسيين. "في تونس نشر الأندلسيون المطاردون في أسبانيا هذا الطراز في المدن التي وجدوا فيها ملجأ"17.. هذا التجزيء المربّع للحدائق كان طرازا لعديد الحدائق في تونس منذ حقبة الحفصيين. نجده على سبيل المثال بدار عثمان "القر17" ودار بن عبد الله "القرن 17" وبقصر الباي بباردو "القرن18" كما نجده إذن بحديقة دار السعادة بقرون متأخّرة. ونجد في هذه الحديقة أيضا روضات أخرى ذات أشكال هندسية التي تُستغلّ سواء لزراعة الخضروات أو لحصر مجموعة النباتات العطرية. أمّا طبيعة النباتات والأشجار المستغلّة فليست لدينا معلومات دقيقة عنها. مع ذلك إن شجرة الأروكاريا "من فصيلة الصنوبريّات" Araucaria أو نخلة معمّرة ما زالت تشهد اليوم بحضورها منذ نشوء الحديقة "أنظر المخطّط".

- امتداد تطوّر القصر وحديقته: "كل أَثَر غير مكتمل أبدا يبقي مفتوحا للسيرورة التاريخية التي تبنيه، وهذه السيرورة هي أكثر أهميّة من نتيجتها"18.

إن الأهمية التي أخذتها دار السعادة منذ نشأتها تجعلنا نفترض وجود نوع من رهافة الإحساس لدى اختيار هذا الموقع دون غيره ولكن بالخصوص بواسطة الناصر باي الذي بناها. يبدو محلّ الإقامة هذا محبوبا منذ نشأته لنفس الأسباب التي للقصر الحفصي: القُرْب من البحر والمركز التاريخي والمناخ المعتدل والموقع المشرف على البحر والحقول.
لقد عرف القصر منذ تشييده عديد التحويرات التي تمسّ الصرح المعماري وحديقته. ما بين التزويق والتحويرات والتوسّعات فإنّ تاريخ هذا المحلّ القديم قد عرف فترات تاريخية مهمّة جدّا ولكن أيضا قد عرف فترات من الفتور فقد خلالها الكثير من خصائصه. متابعة تطوّر هذا القصر وطلب معرفة وفهم تاريخ وتنظيم معماره وحديقته كل ذلك يقتضي تحليلا زمنيّا ومكانيّا. وهكذا سوف نجرّب إعادة تكوين صورة لها منذ أن بناها الباي والأخذ في الاعتبار مختلف التحويرات والتوسّعات التي شملتها.

بعد وفاة الباي سنة 1922 أقامت زوجته للاّ قمر نهائيا مع نسائها الشريفات في هذا القصر الذي اكتسبته على سبيل الهبة. ثمّ أنّها حافظت طوال حياتها الممتدّة بحكمة على الأملاك التي ورثتها عن زوجها. ولم يكن لها أيّ ولد من الثلاثة بايات التي كانت تزوّجت بهم، ولذا منحت جميع ممتلكاتها إلى الجنرال شاذلي حيدر19وزوجته. وهذان الأخيران أخذ ملكية هذا المحلّ بوفاة البيّة السالفة20 سنة 1942.

وسكن الجنرال وزوجته هذا المحلّ منذ ذلك التاريخ دون أن يشملاها بأيّ تغيير. ولكن رغم العزيمة الصادقة فإنّهما فشلا في الحفاظ على كامل المحلّ وفرّطا فيها بالبيع في النهاية، فتحصّلت عليه الدولة التونسية سنة 1953. لقد تضمّن مقال بجريدة لابراس la presse بتاريخ 27 يوليو 1975: "لقد تمّت إعادة تهيئة هذا القصر "..." بمناسبة إقامة سلطان المغرب فيه"21 بتاريخ تشرين الأول 1956. إضافة إلى ذلك فإن أشغال هدم محلاّت إقامة الأمراء التي تمّ مباشرتها في المرسى مسّت البناءات التي للقصر الرسمي، مفسحة المجال هكذا لفضاء أمام قصر السعادة. وقد تمّت تهيئة هذا الفضاء حسب تخطيط غير منتظم، ممرّات ذات خطوط منحنية تحدّد بساتين صغيرة تنقسم إلى أربعة أقسام. أربعة ممرّات تنطلق من الوسط في أربعة اتجاهات متعارضة. ويُشار إلى نقطة تقاطع الممرّات بروضة مستديرة. هذا النوع الثاني من التخطيط يذكّرنا بالحديقة ذات التقاطع المهيّئة منذ بناء دار السعادة. يكمن الاختلاف الوحيد في شكل البساتين الصغيرة.

من يوم غد نفسه من إعلان الجمهورية بتاريخ 25 يوليو 1957 أقام الحبيب بورقيبة الرئيس الأول للجمهورية التونسية بقصر السعادة22 وجعله مقرّا رئاسيا للجمهورية التونسية.

وفي سنة 1958 بُعيْد إقامته بقليل شرع في أشغال هدم بعض محل إقامات البايات والذي منه دار التاج، وعلى أطلال هذا الأخير تحصّلت دار السعادة مرة واحدة على مجال ترابي إضافي. هذا الامتداد الثاني وقع تهيئته حسب تخطيط منظّم، فقد زرعت الحواشي المحيطة بالحديقة بأشجار السرو cyprès بكثافة قصد تسييج الفضاء وحجب المقرّ الرئاسي خلف النبات. ولا تزال باقية على أطراف الحديقة اليوم بستان صغير للخضروات والذي جُعل فضاؤه المزروع في شكل مربّع متساوي الأبعاد. وتمتدّ بين الأشجار طرق ذات زوايا قائمة لتيسير حركية المترجلين ومرور مياه الجابية – التي تحتلّ مركز الحديقة – عبر قنوات.

شهد في سنوات الستينات إشعاع جديد تمثّل في إعطاء المدخل الرئيسي للقصر جانبا من الأهمية وذلك من خلال تخطيطه ودعمه بصفين من أشجار السرو مثلما كان في حدائق الدور المبنيّة بالقرنين 18 و19 ، فمن جهة يندمج مشهد الزرع مع صورة جبل سيدي أبي سعيد من بعيد، ومن جهة أخرى يعطي لمدخل القصر قيمة مهمّة.

في سنة 1970 وقع الشروع في أشغال التوسعة حتى يمكن أن يستجيب قصر السعادة لاستعداداته الجديدة على أساس كونه دار الضيافة بعد أن غادره بورقيبة لأجل قصر قرطاج.

إن التغييرات والتوسعات والتزويق التي عرفها قصر السعادة لاستقبال الضيوف بتونس لم يمسّ فقط القصر وإنّما أيضا حديقته التي خضعت لعدّة تحويرات معتبرة.

لقد تحصّل هذا الأخير أكثر من مرّة على فضاء إضافي ليصل إلى مساحة جملية تقدّر بـ 10 هكتار. هذه المرّة شمل توسيع الحديقة جهة الشمال وجهة الشرق ما عدا الحديقة الصغيرة "الفارسية" لم يطالها أيّ تغيير فهي تشهد إلى حدود الوقت الراهن بنمط من الحدائق الأكثر انتشارا في قصور البايات الحسينيين. إنّ التخطيط الحديث اتّبع الشكل الهندسي الذي يذكّرنا بنفس الحديقة ذات التقاطع. يبقى الاختلاف الوحيد يتمثّل في مقاييس أبعاد الروضات المتكوّنة من خلال تقاطعات الممرّات. تُظهر ملاحظة الصورة الجوية لسنة 1988 أن التخطيط يتناظر مع الحديقة الفارسية المرسومة على زربية يعود تاريخها إلى القرن 17.

بعد استقبال طال عشرات السنين لضيوف من كبار الشخصيات نزلوا بتونس، تنوسي القصر شيئا فشيئا إلى حدود ما تبع التوسّع العمراني الذي عرفته ضاحية المرسى في أواخر القرن 20 والذي أعقب ظهور عديد البناءات الحديثة حول القصر. ولقد عزمت الدولة فضلا عن ذلك على بناء منزل آخر لأجل ضيوفها المهمّين. وسوف يعرف قصر السعادة مرّة أخرى تغييرا عميقا من حيث مصيره.

- حياة جديدة بالنسبة للقصر الحسيني القديم: بعد حياة مليئة بالتغيرات والتطورات عرف قصر السعادة في الوقت الراهن استعدادا وظيفيا جديدا فقد مرّ القصر الخاص إلى كونه مكانا مفتوحا للعموم. هذا المرور سبقته عديد التحويرات والذي منه تهيئة مداخل جديدة وتغيير أدّى إلى تفكيك وحدة تكوين القصر المحيطة به حديقته الشاسعة: يأوي القصر اليوم مقرّا جديدا لبلدية المرسى بينما الحديقة من جهتها وقع إعادة تهيئتها على أساس منتزه عام.

هذا التغيير الوظيفي يناقض الهوية التاريخية لهذا المحل الأميري فهل لهذا البناء اليوم هوية جديدة فيما هو الآن حديقة عامة لقصر السعادة؟

ما هي إلاّ ثلاثة سنوات من الإهمال قد مضت عليه، حينها فكّر المسؤولون في إسناد اختصاص وظيفي جديد للقصر. لقد كانت الفكرة المبدئية تتجه نحو تحويله إلى متحف فنّي، لكن فشل التجربة قادتهم إلى اختيار العبدلية كما ثبّطت من عزائم المبادرين بالمشروع. وهكذا تقرّر جعل القصر والحديقة فضاء ثقافي وترفيهي، وهكذا تمّ إقرار فتح قصر السعادة للعموم. ولقد بدأت الأشغال منذ أبريل 2002 وتمثّلت في تحويل الحدائق منتزها عاما، أمّا الجزء القديم من القصر فقد اتُّخذ رواقا فنّيّا، والجزء الحديث من الـمـَـعْلَم جُعل مقرّا جديدا للبلدية. إنّ مشروع فتح قصر السعادة للعموم قد اصطدم بمشكل كبير وهو التنسيق بين فضاءين ذا وظيفتين مختلفتين: أصبح القصر مَعْلَمًا إداري وثقافي وصارت الحديقة منتزها ترفيهي. ولأسباب وظيفية أقرّ المبادرون بالمشروع ضرورة الفصل بين الفضاءين وذلك عبر سياج حديدي متلاحم يُدعّمه جدار نباتي.

لقد اقتضت التوجيهات المتعلقة بإعادة تهيئة قصر السعادة على المحافظة على المبنى في هيكله الأصلي وصيانة الطابع المعماري وفتح القصر على المدينة وإنشاء فضاء ثقافي. أمّا فيما يتعلّق بالحديقة فإنّ الهدف منها هو تحويلها إلى منتزه مخصّص لتعاطي النشاطات. كلّ ذلك شرط حماية جميع الأنواع النباتية الموجودة فيه.

يعتبر هذا القصر أثرا معماريا متميّزا قد وقع تصنيفه مَعْلَمًا تاريخيا عن طريق اللجنة الوطنية للتراث ورأيا مصادق عليه بقرار23 من وزارة الثقافة بتاريخ 30 يوليو 2002. وهذا التصنيف المعنيّ هنا هو ذلك الذي يخصّ الجزء من القصر المبنيّ في عصر البايات والحديقة الصغيرة التي تحيط به والتي تمتدّ إلى حدود السياج الجديد للقصر.
إنّ القسم الأكبر من الحديقة الذي لم يقع تصنيفه فَقَد الكثير من خصائصه فقد تمّ فيه تهيئة مركّبات حديثة: ملاعب رياضية، فضاء للمطالعة، مساحات للعب الأطفال، مساحات للتنزّه، قاعات للإعلامية، مساحات للاستراحة... هذه الفضاءات التي تضمن نشاطات ثقافية أو رياضية تقتضي أشغالا جديدة: إضاءة، تثبيت الأرضية، وضع تجهيزات رياضية، ألعاب للأطفال، منقولات حضرية. كلّ هذا سجّل مرور الحديقة التاريخية الخاصة إلى أن وصلت إلى منتزه ترفيهي مفتوح للعموم.

في 9 تشرين الأول 2002 دشّن رئيس الجمهورية المقرّ الجديد للبلدية ومنتزه السعادة24 وبداية من يوم غد صار المنتزه مفتوحا للعموم بصفة رسمية. هذا المرور من الخاص إلى العام سجّل مرحلة جديدة في الحياة لهذا القصر الحسيني التليد. لا نتحدّث اليوم أبدا عن قصر السعادة ككلٍّ وإنّما نتكلّم على وجه الدقّة عن منتزه السعادة وعن نزل بالمدينة.

منذ انفتاح المنتزه للعموم وهو يستقطب أعدادا هامة من الزائرين وهكذا فهو يستجيب للحاجة الراهنة كفضاء مناسب للتبادلات الاجتماعية وللمطلب العام في مادة نشاطات التسلية. لكن هل يأتي الزوّار بحثا عن طبيعة مهيّئة أو عن فضاء للتسلية أو يأتون أيضا لاكتشاف وهواية الحديقة التاريخية الاستثنائية؟ يمكننا افتراض عدم إمكانية هذه الحالة، ففي الواقع مع كلّ التحويرات التي تمّ الشروع فيها فَقَدَتْ الحديقة الكثير من خصائصها الأصلية. مع أنّها تمثّل أحد أندر الشواهد عن الحدائق الحسينية، فلم يقع تقدير قيمة حديقة السعادة في حالتها تلك. ولهذا يصعب معرفة ما يفكّر فيه العموم في هذا المقصد.

إنّ السياسات الراهنة تهتمّ بالبيئة وحماية الطبيعة أكثر من المحافظة على الحدائق وتجديدها. مع ذلك فإنّ الجزء التاريخي الأفضل محافظة عليه لم يكن موضع تقدير خاص، زيادة إلى أنه لم يبق من الحدائق لحسينية اليوم إلاّ بعض النماذج. فهذه الأمكنة في الحياة التي تشهد بطابعها التي عبّرت عنه عبر حقبة تاريخية طويلة بتونس هي في طريقها للانقراض. فما بين الإهمال وعدم الاهتمام فقدت بعض الحدائق الكثير من خصائصها، وغيرها انعدمت بالكامل. لابدّ إذن من جذب الاهتمام حول ما بقي منه والتدخّل – مع احترام مبدأ المطابقة المنصوح بها- عبر ميثاق فلورونس25، الذي يعرّف الحدائق التاريخية "كتركيبة معمارية ونباتية التي تمثّل من وجهة نظر التاريخ أو الفنّ مصلحة عامّة"26. ولذا فالأحرى أن يكون للحدائق الحسينية سلطة تخرجها من النسيان وتنزّلها منزلتها داخل المجتمع التونسي المعاصر.


***
1- يعني مجموع نساء العائلة الحسينية.
2- محمد العزيز بن عاشور "المرسى أرض التاريخ" "La Marsa terre d’histoire"، فايزة الزواوي السكندراني "المرسى الأمس واليوم" "La Marsa d’hier et d’aujourd’hui "، تونس، ألفا - ط. 1996 ص 75.
3- شارل لالمون Charles Lallemand "تونس في القرن19" "TUNIS aux e siècle"، تونس دار أبولينا 2000 ص 152.
4- طراز معروف في عصر الموحّد في القرن العاشر.
5- في المغرب أكودال حديقة شاسعة مسيّجة ومزروعة خارج التجمّعات العمرانية. [حدائق أكدال أو بساتين أكدال هي منتزه طبيعي على مشارف مراكش بالمغرب. يمكن للزائر أن يجد فيها مئات من أشجار الزيتون والبرتقال والمشمش وغيرها من الأشجار المثمرة. هذه الحدائق تعتبر مكانا مميزا للاستمتاع بالهدوء والاسترخاء، فهي بعيدة عن الضجيج وملاذ حقيقي للفارين من ضوضاء المدينة الحمراء. تتوفر حدائق أكدال على عشرات الأنواع من الأشجار المثمرة، وهي متاحة للزوار على مساحة تتجاوز 500 هكتار، ما يضفي على الحديقة رونقا خاصا هو استقطابها لمجموعة من الطيور النادرة].
6- فياف دي بريمِيَى باتايون Fief du premier bataillon "قصر منّوبة" "Le palais de la Manouba " تونس: C.S.T.T. ط. جريدة لابراس، 1920 ص 4.
7- مؤرخ وعالم اجتماع وُلد بتونس سنة 1332م، أنظر وصف حدائق ابن فهر عند جورج مارساي George MARÇAIS "الحدائق في الإسلام" Les jardins de l’Islam الموسوعة الاسلامية Encyclopédie de l’Islam ج1 ، باريس دار G.-P. Maisonneuve ولاروس 1975 ص 1386-1387.
8- جاك ريفلت Jacques REVAULT "القصور والمساكن بتونس "القرن 16 و17" Palais et demeures de Tunis "XVIème et XVIIe siècle"- باريس: ط. المركز الوطني للبحوث العلمية CNRS، 1980 ص 42.
9- المنازه في المغرب هي بساتين "سواني" تحيط بالمساكن الفرعية.
10- يُعْزى هذا التأثير إلى تدخّل اليد العاملة الإيطالية في البناء والتزويق. أنظر في هذا الإطار: "العلاقات التونسية الإيطالية في مضمون الحماية" Les relations tuniso-italiennes dans le contexte du protectorat – ندوات دولية، جامعة تونس 1 – تونس، صادرة عن المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية 1999.
11 - جاك ريفلت Jacques REVAULT "القصور والمساكن الصيفية بجهة تونس "القرن 16 و19"" Palais et résidences d‘été de la région de Tunis XVI-XIXe siècle – باريس ط. CNRS 1974 ص 42.
12- ليون ميشال Léon MICHELLE "تونس" Tunis – ط. كارنيى Éditions Garnier 1867 ص 213.
13- فايزة الزواوي السكندراني "المرسى الأمس واليوم" "La Marsa d’hier et d’aujourd’hui "، تونس، ألفا - ط. 1996 ص 25.
14- أُعطي هذا الاسم في هذا الإطار لأنه ينتمي إلى العائلة المالكة، فتحت حكم مًحمّد باي "1855-1859" قد عرفت المرسى ولادة مجال البايات الذي غطّى جزءا كبيرا من الوسط التاريخي.
15- جاك ريفلت Jacques REVAULT "القصور والمساكن بتونس "القرن 16 و17" Palais et demeures de Tunis "XVIème et XVIIe siècle"- باريس: ط. المركز الوطني للبحوث العلمية CNRS، 1980 ص 113.
16- جاك ريفلت Jacques REVAULT، نفس المصدر ص 113.
17- كرمن آنون Carmen Añón "الحدائق في أسبانيا" Jardin en Espagne باريس أشغال الجنوب 1999 ص10.
18- كرمن آنون Carmen Añón نفس المصدر ص47.
19- جورج مارساي George MARÇAIS "الحدائق في الإسلام" Les jardins de l’Islam الموسوعة الإسلامية Encyclopédie de l’Islam ج1 ، باريس دار G.-P. Maisonneuve ولاروس 1975 ص 1386-1387.
20- آن كوكلان Anne COQUELIN أنظر ملاحظة عدد 169 ص 121.
21- جاك ريفلت Jacques REVAULT "القصور والمساكن الصيفية بجهة تونس "القرن 16 و19"" Palais et résidences d‘été de la région de Tunis XVI-XIXe siècle – باريس ط. CNRS 1974 ص 76.
شاذلي حيدر من رجال المخزن تولّى مشيخة المدينة سنة 1943م خلفا عن العزيز الجلّولي واستمرّ على وظيفته الرسمية إلى 1956م سنة تولّي أحمد الزاوش "مسامرات الظريف بحسن التعريف لمحمد عثمان السنوسي دار الغرب الإسلامي ج 1 ص 388".
22- يعني زوجة الباي.
23- جريدة لابراس la presse عدد 7192 بتاريخ 31 ويلية 1957 ص2.
24- ومنذ هذا التاريخ أصبح هذا المحلّ يُعرف باسم "قصر السعادة".
25- قرار متعلق بحماية المعالم التاريخية والأثرية.
26- قرار متعلق بحماية المعالم التاريخية والأثرية.
BY:www.alarabonline.org