سحر وجمال الغروب في مدينة طنجة المغربية
أوّل زيارة لي لطنجة ربما كانت في الخيال، حيث كان منامي مغرما بجرسها الموسيقي صحبة المدينة الأخرى مراكش، فما أن يخيرني المنام أي بلد تريد أن ترحل إليه ؟ حتى ألوذ بالصمت، فيعرف أنه لا اختيار جديد، فيأخذني إلى طنجة أو طانجيس أو تين أجي وهذه مسمياتها على مر التاريخ الذي عاشته.
عرفت طنجة قبل أن أكون كاتبا، وقادتني الأقدار إليها في أول رحلة فعلية عام 1986 عبر الباخرة الليبية طليطلة المبحرة من ميناء طرابلس الغرب، آنذاك كنت مدرسا في مدرسة إعدادية و كتقليد لبعض المدرسين الذين ينطلقون إلى تركيا من أجل جلب السلع وبيعها في سوق الجريد أو الفندق البلدي أو النملة أو في مرابيع البيوت قررت أن أجرّب حظي مع هذا الشيء الذي يمتهنه أبي ولم يورثه لي وهو التجارة، لكن لم أختر الوجهة التركية ذات الربح المضمون والفوري وتوجهت مغامرا قاصدا طنجة، بلد الرحالة الشهير ابن بطوطة.
البلد الذي تلتقي فيه المياه المتوسطية بالأطلسية في امتزاج سلام، البلد الذي امتزجت فيه ثقافات الشرق بالغرب بالجنوب، البلد الذي به المضيق الشهير الذي عبره طارق بن زياد لنشر الأنوار والحضارة في أوربا الظلام القرون الوسطى، البلد الذي بإمكانك عندما يكون الجو صحوا رؤية الضفة الأخرى من اليابسة، البلد الذي يسبب لك الألم والحرقة عندما ترقب عن بعد مدينتي سبتة ومليلة المحتلتين من إسبانيا حتى الآن.
ذلك العام هو العام الذي تعرضت فيه الجماهيرية الليبية لغارة جوية من قبل أمريكا والحلف الأطلسي و هو الزمن نفسه الذي رحل فيه الأديب العالمي جان جينيه ليلة 14 -15إبريل/نيسان 1986 المدفون الآن في مدينة العرائش القريبة من طنجة في مقبرة إسبانية قديمة تشرف على البحر، معظم الأدباء الذين يزورون طنجة لابد من أن يزوروا جان جينيه، تقديرا لقيمته الإبداعية ولمواقفه النضالية الداعية للتحرر ورفع الظلم والمناصرة بالفعل وليس بالقول للقضايا العالمية المعروفة مثل قضية فلسطين التي ناصرها مقاتلا مع الفلسطينيين إبان محنتهم فيما يسمى بإيلول الأسود أو أثناء تعرضهم لمذبحة صبرا وشاتيلا التي دخل إلى عمق مخيماتها وشاهد الجثث والوحشية التي مورست من قبل إسرائيل وما تملكه من أذناب وأيدي في التراب اللبناني كحزب الكتائب وغيره وكتب عنها كتابا مازال يدين هذه الجرائم حتى الآن.
الباخرة طليطلة تبقى في طنجة يوما واحدا وتعود إلى طرابلس في اليوم الثالث، وفور نزولي إلى رصيف الميناء وجلوسي في إحدى المقاهي وتذوقي للشاي الأخضر بالنعناع ورؤية حيوية المدينة ونشاطها ومزيجها الإنساني الذي امتزجت به روحي حتى قررت أن أتخلف، لن أعود مع الأصدقاء المدرسين التجار الذين اشتروا بضائعهم في ساعة ليعودوا إلى الباخرة متقشفين ومقلصين مصاريف الرحلة إلى أقصى مدى طمعا في مكسب أكبر، لن تكتب علي أن أرى الجمال وأتركه، فلأسجل غياب، فليقل الأصدقاء عني أني رفيق سيء يترك أصحابه في أي لحظة.
لم يكن معي آنذاك إلا ثلاثمائة دولار وهي الحوالة المسموح بتصريفها عبر جواز السفر تلك الأيام أي بالليبي 100 دينار فقط، لكن كنت قد اشتريت من السوق السوداء 400 دولا أخرى ترافل شيك توماس كوك ونجحت في تهريبها معي، عاتبني الأصدقاء وضغطوا علي كي أعود، واقترحوا أن يشتروا مني كل البضاعة بشرط أن يقومون هم باختيارها وأنا بدفع الثمن، اتصلت بي أسرتي أيضا خوفا علي من السحر المغربي ، لكن اعتذرت للجميع، وطمأننت أسرتي أني بخير لكن البضاعة في طنجة لم تعجبني سأبحث عن بضائع أكثر ربحا في مراكش الحمراء، وقلت لهم أريد أن أبقى، المكان أسرني، ولتسقط التجارة، ولتسقط العودة إلى البلاد، وغادرت السفينة الميناء عند المساء، ورأيت الأصدقاء وهم يلوحون لي، وبادلتهم التحية ثم غبت في شوارع طنجة التجارية وأسواقها ومقاهيها وقصبتها القديمة ولم أعد إلى الفندق الشعبي الذي سكنته قرب الميناء وأسمه المرسى إلا في وقت متأخر جدا، طرقت الباب ففتح لي موظف الاستقبال قائلا، أنشغلنا عليك، قلت له إطمئن أنا بخير ودخلت لأنام.
لم تكن الكتابة تشغلني آنذاك، ولا حتى القراءة أيضا، فالقراءة كنت أقرأ بالصدفة، ليس لدي كاتب معين يعجبني، أعرف جان جينيه وسارتر وكامو ومحمد شكري ومحمد زفزاف وبن جلون ومحمد خير الدين والعروي والكتاب الروس والامريكان وبول بولز ووليامز ومومبسان والبرتو مورافيا ومحفوظ وغيرهم، كنت أقرأهم لكن لم أكن معنيا بأن أكون كاتبا، أقرأهم للمتعة فقط دون تفاعل مع ما يطرحونه من قضايا ولو كانت عقليتي آنذاك مثل الآن لكنت تعرفت على جان جينيه وبول بولز ومحمد شكري وربما استقررت هناك حتى يومنا هذا.
كنت أقرأ الصحف بصورة يومية، وأهتم بالدرجة الأولى بالرياضة وكرة القدم التي كنت أمارسها خلال الثمانينيات لاعبا في فريق السواعد، متتبعا أخبار اللاعبين والفرق وخطط اللعب والطب الرياضي وكنا دائما والأصدقاء متحمسين للفريق الجزائري الذي أثبت حضورا قويا في بطولة كأس العالم بإسبانيا عبر نجومه الأخضر بللومي ورابح ماجر وعصاد وقريشي وقندوز وسرباح وفرجاني وغيرهم وأيضا الفريق المغربي ونجومه الكبار من أمثال محمد التيمومي وعزيز بودربالة والزاكي وظلمي ولا ننسى أن فريقنا الوطني الليبي كان ندا قويا لهذه الفرق وكان قاب قوسين أو أدنى من الوصول للمنديال العالمي عبر نجومه العيساوي والبشاري وباني والفرجاني وشنقب وغيرهم.
لم أندم عن تخلفي عن الرحلة، شعرت براحة تامة، تاجرت في التأمل، لا أحد أعرفه في المدينة حتى أتحدث معه، بدأت في نسج علاقات جديدة، أتحدث مع أناس لينتهي الحديث مع انتهاء الجلسة، نتحدث عن كرة القدم، ومنها ننتقل إلى معاناة الإنسان في حياته من الفقر، نتحدث عن مشاكل العالم، عن أحوال الطقس، عن الأغاني الشعبية، هم يغنون لي أغنية، وأنا أرد عليهم بأغنية مرسكاوي الذي أحفظ منه الكثير، كلنا يفهم، لا انغلاق في لغة الموسيقا، أعزف على الناي، ناي جديد اشتريته من محل تحف وتذكارات في طنجة، قرب السوق الداخل، محل يقع على مرتفع صغير، تصعد إليه عبر بعض الأدراج المتآكلة الحواف، من يعزف على الناي يمكنه العزف على الأكورديون، على البيانو، على الأورغ، على أي آلة غير وترية، هكذا قال لي الفنان الشعبي، قلت صح، وعزفت له لحنا على كورديون كبير ثقيل، فابتسم، لكن قلت له أنا أعزف أيضا حتى على الأوتار، فقط بشرط أن تكون مشدودة إلى قلوبكم جميعا.
لم أكن مدخنا، لكن الأصدقاء الفنانين يدخنون بشراهة، لكن لم أكن أكح من الدخان، شعرت أنه غير مضر بالصحة، لم أكن آنذاك أعد الأيام، أقمت صداقات كثيرة مع أصحاب الدكاكين الذين يعرفون أن معظم الليبيين تجار فيكرمونهم وحتى يقرضونهم بعض المال، أيضا علاقات مع رواد المقاهي وبعض فناني الملاهي الليلية، وكان آنذاك كل شيء رخيص، ونستطيع أن نقول أن مجد طنجة كان خلال حقبة الثمانينيات ..
وفعلا هي مدينة أسطورية تستمع فيها إلى عدة أساطير ننقل منها " تقول الأسطورة الشفوية المتداولة بين الناس بمدينة "طنجة" إنه بعد الطوفان ضلت سفينة نوح الطريق وهي تبحث عن اليابسة، وذات يوم حطت حمامة فوق السفينة وشيء من الوحل في رجليها، فصاح ركاب السفينة "الطين جا.. الطين جا"، أي جاءت الأرض اليابسة، ومن ثم سميت المنطقة "طنجة".
أما الأسطورة الإغريقية فتقول إن "أنتي" كان ابن "بوسيدون" و"غايا"، وكان يهاجم المسافرين فيقتلهم وصنع من جماجمهم معبدا أهداه لأبيه، وأطلق على مملكته اسم زوجته "طنجة" -بكسر الطاء وسكون النون- وكانت تمتد من سبتة إلى "ليكسوس" مدينة التفاحات الذهبية قرب العرائش.
وفي معركة قوية بين هرقل وأنتي استطاع هرقل أن يهزمه، وفي الصراع شقت إحدى ضربات سيفه مضيق البوغاز بين أوروبا والمغرب والمغارات المشهورة باسمه، ثم تزوج بعد ذلك زوجة أنتي، فأنجبت له سوفوكس الذي أنشأ مستعمرة "طنجيس".
بعد أول رحلة عدت إلى طنجة مرة أخرى في زيارة قصيرة، وبعدها هذه المرة التي قدمت إليها ليس سائحا أو تاجرا إنما ككاتب، كتب أولى رواياته " المداسة " عن هذه المدينة، جئت بدعوى من ملتقى المتخيل المتوسطي المهتم بفن السرد وأيضا بدعوة من ملتقى الشعر الإيبيرمغربي المهتم بالشعر اللاتيني والعربي، وفي الوقت نفسه لإستكمال روايتي الجديدة التي بدأت كتابتها هذا الصيف في تايلند " رواية أحلام " من بنغازي حجزت فندقا جميلا، وإلى تونس سافرت وبعد يوم في تونس وصلت الدار البيضاء وبعد يوم في الدار البيضاء انطلقت إلى طنجة، حيث كان الأصدقاء من دكاترة جامعة تطوان ومن الكتاب الشباب من أحفاد محمد شكري في استقبالي، قلت لهم لا أريد تضييع الوقت، أنا قادم للكتابة، وقبل موعد الندوة بساعة أكون عندكم، وتمر الأيام الجميلة، لا أخرج من الغرفة إلا السادسة عشية.
بقية الوقت أقضيه في الفندق، أكتب وأنام، ولا أتناول الغداء، لا أشعر بالجوع في طنجة، في الصباح أفطر في الفندق، بعدها الحمد لله، أشرب الماء فقط، وفي المساء أخرج أجلس في مقهى أتناول الشاي الأخضر وبعض الطعام، وألتقي الصديق الشاعر إدريس علوش والصديق الكاتب يحي بن الوليد والدكتور مزوار الإدريسي والدكتور محمد المسعودي وعدد آخر من المبدعين الذين لا أذكر أسمائهم الآن ونتناقش قليلا في أمور الثقافة والترجمة وغيرها من الأمور، بعدها تنفض الجلسة ويذهب كل واحد منا باحثا عن جنونه.
في يوم الندوة آوان الأصيل توجهت إلى مقر جمعية كوكوناف بشارع المكسيك صحبة الناقد والمترجم د مزوار الإدريسي، استقبلني رئيس الجمعية في مكتبه والتقط لي صورا إلى جانب شعار الجمعية الثقافية، قال لي من قبل استقبلنا هنا في ندوة ثقافية الروائي واسيني الأعرج والشاعر فاضل العزاوي، حضر الندوة من الكتاب الليبيين الشاعر سالم العوكلي والكاتبة رزان المغربي، رحبت به وشكرته على هذه الاستضافة القيمة وخاصة أنها جاءت من مدينة خالدة في ذاكرتي أسمها طنجة.
على الرغم من أن وقت الندوة كان وقت مباراة ريال مدريد الإسباني وميلان الإيطالي ومعروف أ، كل أهل طنجة يشجعون الكرة الأسبانية إلا أن أحد من المدعوين للندوة لم يتخلف، حضر الندوة التي تحدثت فيها عن راهن الثقافة الليبية أولا ثم عن تجربتي في الكتابة مجموعة من مثقفي المدينة ورؤساء تحرير مجلات ونقاد ومسرحيين أذكر منهم :
د عبداللطيف الزكري " قاص وناقد" د محمد أحمد بنيس "شاعر" د محمد المسعودي "ناقد وشاعر وقاص" د مصطفى الورياغلي " ناقد وروائي " د مزوار الإدريسي " شاعر وناقد " د محمد الرميج "ناقد" د محمد الأزرق " ناقد" د كريم واكريم " رئيس تحرير طنجة الأدبية" د عزالدين الوافي "ناقد سينمائي" د محمد الكلاف " قاص وناقد" د عبداللطيف الخياطي "قاص" د محمد الهوتة "صحفي" د إدريس الجبروني "ناقد ومترجم" وغيرهم.
بدأت الندوة بتقديم من قبل د مزوار الإدريسي الذي تحدث عن روايتي ما قبل الأخيرة ملح ـ كنت من مدة قد أرسلت لهم طرد به 12 نسخة من رواياتي ورواية زوجتي آمال قسامي من دار الحوار بسوريا ـ وتحدث عن طريقتي في الكتابة ولغتي وأسلوبي الحكائي ثم تحدث د محمد المسعودي عن روايتي شكشوكة بينما د مصطفى الورياغلي تحدث عن روايتي شرمولة، بعدها أعطيت لي الكلمة لأتحدث عن الثقافة في ليبيا وعن تجربتي.
حيث قدمت صورة تعبر عن وجهة نظري عن راهن الثقافة الليبية وعن مؤسساتها الفاعلة وعن إصدار الكتب وعن الإهتمام بالكتاب مبرزا السلبيات والإيجابيات، وقلت لهم لن أكن معكم شفافا في مسألة السلبيات بالثقافة الليبية لأني لا أحب أن أتحدث عن بلادي بسوء خارج الوطن، لكن داخل الوطن بإمكاني أن أتشاجر بسبب الثقافة مع أي كان، تحدثت عن تجارب الكتابة في ليبيا وعن بعض الشعراء الشباب والروائيين الشباب والنقاد أيضا، ومعي كتب أحضرتها من ليبيا لبعض المبدعين الليبيين من مختلف الأجيال وزعتها عليهم لمزيد من الإلمام بالمشهد الثقافي الليبي.
بعدها تحدثت عن تجربتي وعن أسفاري وعن كتاباتي ونشري الشخصي لرواياتي في مصر وبيروت وسوريا وعن زياراتي للمغرب وعن كتابها المعروفين وعن الأدب العالمي وعن حياتي الشخصية، تحدثت بحرية وكأنني أكتب رواية لقارئ أحبه أن يقرأني، تحدثت بشكل متقطع وبدون تركيز، وبانتقالات سريعة من موضوع إلى آخر، وبلغة خليط من العربية والدارجة الليبية والمغربية، وقلت لهم أنا فقدت لهجتي، اختلطت بعدة شعوب وبعدة أناس من عدة مدن وتحدثت مع الجميع، ففقدت لكنتي، ولم أعد انتمي لأي مدينة، المهم لدي أن يفهمني الآخر.
تحدثت عن ضعف سمعي الذي أرفض أن أعالجه حتى لا أسمع أكثر من اللزوم، وكانت أجواء الندوة مرحة، والجميع يريدني أن أواصل الكلام دون توقف خاصة عن حياتي الشخصية التي تنتقل سريعا لتتحول إلى أدبا في روايات، لكن أنا شعرت بالعطش، لم أجد أجواء جميلة مثل هذه أدلق فيها هذا الكم الهائل من البوح، فشربت جرعة ماء من ماء سيدي حرازم وقلت لهم الآن أيها الدكاترة المبدعون الإعزاء والذين لم أتشرف بوجودهم من قبل في أي لقاء أدبي في ليبيا بل لم تستضيفني حتى الآن أي جامعة ليبية ولا تلفزيون ليبي وأنا بالطبع لا أرغب في ذلك، لأنه لدي 13 كتابا رائعا ولا أحد مهتم، هاتوا ما في جعبتكم من أسئلة وسأحاول الإجابة قدر المستطاع والذي لا أسمعه جيدا يمكنه كتابة السؤال في الورقة الموضوعة أمامه ...
وكانت الأسئلة موضوعية وتم صياغتها من خلال قراءتهم للروايات ومعظمها تتحدث عن طريقة الكتابة، أي الورشة التي انتهجها في كتابة هذه المواد الغزيرة ، وأسئلة أخرى عن ماذا تعني الكتابة وهل تحبها أم تكرهها وقلت لهم أعيشها فقط وبعض الأسئلة سألتني لماذا بدأت الكتابة متأخرا أي وأنت عمرك 39 سنة وقلت لهم قبل الكتابة كنت لاعب كرة قدم وبعدها صرت تاجر شنطة أجوب بلاد العالم وذات يوم كنت في الصين ورأيت بعض الشيوخ الكبار ذكور ونساء يخرجون من بيوتهم ويتوجهون إلى حديقة عامة وفي أيديهم أقفاص بها عصافير زينة تغرد، علقوا الأقفاص في أغصان الشجر ثم نظموا أنفسهم في صفوف وصاروا يعزفون الموسيقا ويرقصون والعصافير داخل الأقفاص تنط في مرح و تغرد معهم، شعرت آنذاك أني عصفور فبدأت أرقص معهم لكن ليس على عشب الحديقة الصينية إنما على ملح و طين و سافي و رمال الجنان الليبية.
عرفت طنجة قبل أن أكون كاتبا، وقادتني الأقدار إليها في أول رحلة فعلية عام 1986 عبر الباخرة الليبية طليطلة المبحرة من ميناء طرابلس الغرب، آنذاك كنت مدرسا في مدرسة إعدادية و كتقليد لبعض المدرسين الذين ينطلقون إلى تركيا من أجل جلب السلع وبيعها في سوق الجريد أو الفندق البلدي أو النملة أو في مرابيع البيوت قررت أن أجرّب حظي مع هذا الشيء الذي يمتهنه أبي ولم يورثه لي وهو التجارة، لكن لم أختر الوجهة التركية ذات الربح المضمون والفوري وتوجهت مغامرا قاصدا طنجة، بلد الرحالة الشهير ابن بطوطة.
البلد الذي تلتقي فيه المياه المتوسطية بالأطلسية في امتزاج سلام، البلد الذي امتزجت فيه ثقافات الشرق بالغرب بالجنوب، البلد الذي به المضيق الشهير الذي عبره طارق بن زياد لنشر الأنوار والحضارة في أوربا الظلام القرون الوسطى، البلد الذي بإمكانك عندما يكون الجو صحوا رؤية الضفة الأخرى من اليابسة، البلد الذي يسبب لك الألم والحرقة عندما ترقب عن بعد مدينتي سبتة ومليلة المحتلتين من إسبانيا حتى الآن.
ذلك العام هو العام الذي تعرضت فيه الجماهيرية الليبية لغارة جوية من قبل أمريكا والحلف الأطلسي و هو الزمن نفسه الذي رحل فيه الأديب العالمي جان جينيه ليلة 14 -15إبريل/نيسان 1986 المدفون الآن في مدينة العرائش القريبة من طنجة في مقبرة إسبانية قديمة تشرف على البحر، معظم الأدباء الذين يزورون طنجة لابد من أن يزوروا جان جينيه، تقديرا لقيمته الإبداعية ولمواقفه النضالية الداعية للتحرر ورفع الظلم والمناصرة بالفعل وليس بالقول للقضايا العالمية المعروفة مثل قضية فلسطين التي ناصرها مقاتلا مع الفلسطينيين إبان محنتهم فيما يسمى بإيلول الأسود أو أثناء تعرضهم لمذبحة صبرا وشاتيلا التي دخل إلى عمق مخيماتها وشاهد الجثث والوحشية التي مورست من قبل إسرائيل وما تملكه من أذناب وأيدي في التراب اللبناني كحزب الكتائب وغيره وكتب عنها كتابا مازال يدين هذه الجرائم حتى الآن.
الباخرة طليطلة تبقى في طنجة يوما واحدا وتعود إلى طرابلس في اليوم الثالث، وفور نزولي إلى رصيف الميناء وجلوسي في إحدى المقاهي وتذوقي للشاي الأخضر بالنعناع ورؤية حيوية المدينة ونشاطها ومزيجها الإنساني الذي امتزجت به روحي حتى قررت أن أتخلف، لن أعود مع الأصدقاء المدرسين التجار الذين اشتروا بضائعهم في ساعة ليعودوا إلى الباخرة متقشفين ومقلصين مصاريف الرحلة إلى أقصى مدى طمعا في مكسب أكبر، لن تكتب علي أن أرى الجمال وأتركه، فلأسجل غياب، فليقل الأصدقاء عني أني رفيق سيء يترك أصحابه في أي لحظة.
لم يكن معي آنذاك إلا ثلاثمائة دولار وهي الحوالة المسموح بتصريفها عبر جواز السفر تلك الأيام أي بالليبي 100 دينار فقط، لكن كنت قد اشتريت من السوق السوداء 400 دولا أخرى ترافل شيك توماس كوك ونجحت في تهريبها معي، عاتبني الأصدقاء وضغطوا علي كي أعود، واقترحوا أن يشتروا مني كل البضاعة بشرط أن يقومون هم باختيارها وأنا بدفع الثمن، اتصلت بي أسرتي أيضا خوفا علي من السحر المغربي ، لكن اعتذرت للجميع، وطمأننت أسرتي أني بخير لكن البضاعة في طنجة لم تعجبني سأبحث عن بضائع أكثر ربحا في مراكش الحمراء، وقلت لهم أريد أن أبقى، المكان أسرني، ولتسقط التجارة، ولتسقط العودة إلى البلاد، وغادرت السفينة الميناء عند المساء، ورأيت الأصدقاء وهم يلوحون لي، وبادلتهم التحية ثم غبت في شوارع طنجة التجارية وأسواقها ومقاهيها وقصبتها القديمة ولم أعد إلى الفندق الشعبي الذي سكنته قرب الميناء وأسمه المرسى إلا في وقت متأخر جدا، طرقت الباب ففتح لي موظف الاستقبال قائلا، أنشغلنا عليك، قلت له إطمئن أنا بخير ودخلت لأنام.
لم تكن الكتابة تشغلني آنذاك، ولا حتى القراءة أيضا، فالقراءة كنت أقرأ بالصدفة، ليس لدي كاتب معين يعجبني، أعرف جان جينيه وسارتر وكامو ومحمد شكري ومحمد زفزاف وبن جلون ومحمد خير الدين والعروي والكتاب الروس والامريكان وبول بولز ووليامز ومومبسان والبرتو مورافيا ومحفوظ وغيرهم، كنت أقرأهم لكن لم أكن معنيا بأن أكون كاتبا، أقرأهم للمتعة فقط دون تفاعل مع ما يطرحونه من قضايا ولو كانت عقليتي آنذاك مثل الآن لكنت تعرفت على جان جينيه وبول بولز ومحمد شكري وربما استقررت هناك حتى يومنا هذا.
كنت أقرأ الصحف بصورة يومية، وأهتم بالدرجة الأولى بالرياضة وكرة القدم التي كنت أمارسها خلال الثمانينيات لاعبا في فريق السواعد، متتبعا أخبار اللاعبين والفرق وخطط اللعب والطب الرياضي وكنا دائما والأصدقاء متحمسين للفريق الجزائري الذي أثبت حضورا قويا في بطولة كأس العالم بإسبانيا عبر نجومه الأخضر بللومي ورابح ماجر وعصاد وقريشي وقندوز وسرباح وفرجاني وغيرهم وأيضا الفريق المغربي ونجومه الكبار من أمثال محمد التيمومي وعزيز بودربالة والزاكي وظلمي ولا ننسى أن فريقنا الوطني الليبي كان ندا قويا لهذه الفرق وكان قاب قوسين أو أدنى من الوصول للمنديال العالمي عبر نجومه العيساوي والبشاري وباني والفرجاني وشنقب وغيرهم.
لم أندم عن تخلفي عن الرحلة، شعرت براحة تامة، تاجرت في التأمل، لا أحد أعرفه في المدينة حتى أتحدث معه، بدأت في نسج علاقات جديدة، أتحدث مع أناس لينتهي الحديث مع انتهاء الجلسة، نتحدث عن كرة القدم، ومنها ننتقل إلى معاناة الإنسان في حياته من الفقر، نتحدث عن مشاكل العالم، عن أحوال الطقس، عن الأغاني الشعبية، هم يغنون لي أغنية، وأنا أرد عليهم بأغنية مرسكاوي الذي أحفظ منه الكثير، كلنا يفهم، لا انغلاق في لغة الموسيقا، أعزف على الناي، ناي جديد اشتريته من محل تحف وتذكارات في طنجة، قرب السوق الداخل، محل يقع على مرتفع صغير، تصعد إليه عبر بعض الأدراج المتآكلة الحواف، من يعزف على الناي يمكنه العزف على الأكورديون، على البيانو، على الأورغ، على أي آلة غير وترية، هكذا قال لي الفنان الشعبي، قلت صح، وعزفت له لحنا على كورديون كبير ثقيل، فابتسم، لكن قلت له أنا أعزف أيضا حتى على الأوتار، فقط بشرط أن تكون مشدودة إلى قلوبكم جميعا.
لم أكن مدخنا، لكن الأصدقاء الفنانين يدخنون بشراهة، لكن لم أكن أكح من الدخان، شعرت أنه غير مضر بالصحة، لم أكن آنذاك أعد الأيام، أقمت صداقات كثيرة مع أصحاب الدكاكين الذين يعرفون أن معظم الليبيين تجار فيكرمونهم وحتى يقرضونهم بعض المال، أيضا علاقات مع رواد المقاهي وبعض فناني الملاهي الليلية، وكان آنذاك كل شيء رخيص، ونستطيع أن نقول أن مجد طنجة كان خلال حقبة الثمانينيات ..
وفعلا هي مدينة أسطورية تستمع فيها إلى عدة أساطير ننقل منها " تقول الأسطورة الشفوية المتداولة بين الناس بمدينة "طنجة" إنه بعد الطوفان ضلت سفينة نوح الطريق وهي تبحث عن اليابسة، وذات يوم حطت حمامة فوق السفينة وشيء من الوحل في رجليها، فصاح ركاب السفينة "الطين جا.. الطين جا"، أي جاءت الأرض اليابسة، ومن ثم سميت المنطقة "طنجة".
أما الأسطورة الإغريقية فتقول إن "أنتي" كان ابن "بوسيدون" و"غايا"، وكان يهاجم المسافرين فيقتلهم وصنع من جماجمهم معبدا أهداه لأبيه، وأطلق على مملكته اسم زوجته "طنجة" -بكسر الطاء وسكون النون- وكانت تمتد من سبتة إلى "ليكسوس" مدينة التفاحات الذهبية قرب العرائش.
وفي معركة قوية بين هرقل وأنتي استطاع هرقل أن يهزمه، وفي الصراع شقت إحدى ضربات سيفه مضيق البوغاز بين أوروبا والمغرب والمغارات المشهورة باسمه، ثم تزوج بعد ذلك زوجة أنتي، فأنجبت له سوفوكس الذي أنشأ مستعمرة "طنجيس".
بعد أول رحلة عدت إلى طنجة مرة أخرى في زيارة قصيرة، وبعدها هذه المرة التي قدمت إليها ليس سائحا أو تاجرا إنما ككاتب، كتب أولى رواياته " المداسة " عن هذه المدينة، جئت بدعوى من ملتقى المتخيل المتوسطي المهتم بفن السرد وأيضا بدعوة من ملتقى الشعر الإيبيرمغربي المهتم بالشعر اللاتيني والعربي، وفي الوقت نفسه لإستكمال روايتي الجديدة التي بدأت كتابتها هذا الصيف في تايلند " رواية أحلام " من بنغازي حجزت فندقا جميلا، وإلى تونس سافرت وبعد يوم في تونس وصلت الدار البيضاء وبعد يوم في الدار البيضاء انطلقت إلى طنجة، حيث كان الأصدقاء من دكاترة جامعة تطوان ومن الكتاب الشباب من أحفاد محمد شكري في استقبالي، قلت لهم لا أريد تضييع الوقت، أنا قادم للكتابة، وقبل موعد الندوة بساعة أكون عندكم، وتمر الأيام الجميلة، لا أخرج من الغرفة إلا السادسة عشية.
بقية الوقت أقضيه في الفندق، أكتب وأنام، ولا أتناول الغداء، لا أشعر بالجوع في طنجة، في الصباح أفطر في الفندق، بعدها الحمد لله، أشرب الماء فقط، وفي المساء أخرج أجلس في مقهى أتناول الشاي الأخضر وبعض الطعام، وألتقي الصديق الشاعر إدريس علوش والصديق الكاتب يحي بن الوليد والدكتور مزوار الإدريسي والدكتور محمد المسعودي وعدد آخر من المبدعين الذين لا أذكر أسمائهم الآن ونتناقش قليلا في أمور الثقافة والترجمة وغيرها من الأمور، بعدها تنفض الجلسة ويذهب كل واحد منا باحثا عن جنونه.
في يوم الندوة آوان الأصيل توجهت إلى مقر جمعية كوكوناف بشارع المكسيك صحبة الناقد والمترجم د مزوار الإدريسي، استقبلني رئيس الجمعية في مكتبه والتقط لي صورا إلى جانب شعار الجمعية الثقافية، قال لي من قبل استقبلنا هنا في ندوة ثقافية الروائي واسيني الأعرج والشاعر فاضل العزاوي، حضر الندوة من الكتاب الليبيين الشاعر سالم العوكلي والكاتبة رزان المغربي، رحبت به وشكرته على هذه الاستضافة القيمة وخاصة أنها جاءت من مدينة خالدة في ذاكرتي أسمها طنجة.
على الرغم من أن وقت الندوة كان وقت مباراة ريال مدريد الإسباني وميلان الإيطالي ومعروف أ، كل أهل طنجة يشجعون الكرة الأسبانية إلا أن أحد من المدعوين للندوة لم يتخلف، حضر الندوة التي تحدثت فيها عن راهن الثقافة الليبية أولا ثم عن تجربتي في الكتابة مجموعة من مثقفي المدينة ورؤساء تحرير مجلات ونقاد ومسرحيين أذكر منهم :
د عبداللطيف الزكري " قاص وناقد" د محمد أحمد بنيس "شاعر" د محمد المسعودي "ناقد وشاعر وقاص" د مصطفى الورياغلي " ناقد وروائي " د مزوار الإدريسي " شاعر وناقد " د محمد الرميج "ناقد" د محمد الأزرق " ناقد" د كريم واكريم " رئيس تحرير طنجة الأدبية" د عزالدين الوافي "ناقد سينمائي" د محمد الكلاف " قاص وناقد" د عبداللطيف الخياطي "قاص" د محمد الهوتة "صحفي" د إدريس الجبروني "ناقد ومترجم" وغيرهم.
بدأت الندوة بتقديم من قبل د مزوار الإدريسي الذي تحدث عن روايتي ما قبل الأخيرة ملح ـ كنت من مدة قد أرسلت لهم طرد به 12 نسخة من رواياتي ورواية زوجتي آمال قسامي من دار الحوار بسوريا ـ وتحدث عن طريقتي في الكتابة ولغتي وأسلوبي الحكائي ثم تحدث د محمد المسعودي عن روايتي شكشوكة بينما د مصطفى الورياغلي تحدث عن روايتي شرمولة، بعدها أعطيت لي الكلمة لأتحدث عن الثقافة في ليبيا وعن تجربتي.
حيث قدمت صورة تعبر عن وجهة نظري عن راهن الثقافة الليبية وعن مؤسساتها الفاعلة وعن إصدار الكتب وعن الإهتمام بالكتاب مبرزا السلبيات والإيجابيات، وقلت لهم لن أكن معكم شفافا في مسألة السلبيات بالثقافة الليبية لأني لا أحب أن أتحدث عن بلادي بسوء خارج الوطن، لكن داخل الوطن بإمكاني أن أتشاجر بسبب الثقافة مع أي كان، تحدثت عن تجارب الكتابة في ليبيا وعن بعض الشعراء الشباب والروائيين الشباب والنقاد أيضا، ومعي كتب أحضرتها من ليبيا لبعض المبدعين الليبيين من مختلف الأجيال وزعتها عليهم لمزيد من الإلمام بالمشهد الثقافي الليبي.
بعدها تحدثت عن تجربتي وعن أسفاري وعن كتاباتي ونشري الشخصي لرواياتي في مصر وبيروت وسوريا وعن زياراتي للمغرب وعن كتابها المعروفين وعن الأدب العالمي وعن حياتي الشخصية، تحدثت بحرية وكأنني أكتب رواية لقارئ أحبه أن يقرأني، تحدثت بشكل متقطع وبدون تركيز، وبانتقالات سريعة من موضوع إلى آخر، وبلغة خليط من العربية والدارجة الليبية والمغربية، وقلت لهم أنا فقدت لهجتي، اختلطت بعدة شعوب وبعدة أناس من عدة مدن وتحدثت مع الجميع، ففقدت لكنتي، ولم أعد انتمي لأي مدينة، المهم لدي أن يفهمني الآخر.
تحدثت عن ضعف سمعي الذي أرفض أن أعالجه حتى لا أسمع أكثر من اللزوم، وكانت أجواء الندوة مرحة، والجميع يريدني أن أواصل الكلام دون توقف خاصة عن حياتي الشخصية التي تنتقل سريعا لتتحول إلى أدبا في روايات، لكن أنا شعرت بالعطش، لم أجد أجواء جميلة مثل هذه أدلق فيها هذا الكم الهائل من البوح، فشربت جرعة ماء من ماء سيدي حرازم وقلت لهم الآن أيها الدكاترة المبدعون الإعزاء والذين لم أتشرف بوجودهم من قبل في أي لقاء أدبي في ليبيا بل لم تستضيفني حتى الآن أي جامعة ليبية ولا تلفزيون ليبي وأنا بالطبع لا أرغب في ذلك، لأنه لدي 13 كتابا رائعا ولا أحد مهتم، هاتوا ما في جعبتكم من أسئلة وسأحاول الإجابة قدر المستطاع والذي لا أسمعه جيدا يمكنه كتابة السؤال في الورقة الموضوعة أمامه ...
وكانت الأسئلة موضوعية وتم صياغتها من خلال قراءتهم للروايات ومعظمها تتحدث عن طريقة الكتابة، أي الورشة التي انتهجها في كتابة هذه المواد الغزيرة ، وأسئلة أخرى عن ماذا تعني الكتابة وهل تحبها أم تكرهها وقلت لهم أعيشها فقط وبعض الأسئلة سألتني لماذا بدأت الكتابة متأخرا أي وأنت عمرك 39 سنة وقلت لهم قبل الكتابة كنت لاعب كرة قدم وبعدها صرت تاجر شنطة أجوب بلاد العالم وذات يوم كنت في الصين ورأيت بعض الشيوخ الكبار ذكور ونساء يخرجون من بيوتهم ويتوجهون إلى حديقة عامة وفي أيديهم أقفاص بها عصافير زينة تغرد، علقوا الأقفاص في أغصان الشجر ثم نظموا أنفسهم في صفوف وصاروا يعزفون الموسيقا ويرقصون والعصافير داخل الأقفاص تنط في مرح و تغرد معهم، شعرت آنذاك أني عصفور فبدأت أرقص معهم لكن ليس على عشب الحديقة الصينية إنما على ملح و طين و سافي و رمال الجنان الليبية.
November 26, 2010